اطلب المال ولكن …
نحن نعيش في مجتمع اقتنائي نفاخر فيه بالمال والثراء، ونعرف أننا لن نستطيع أن نحصل فيه على سلعة أو خدمة إلا بعد أن نبذل ثمنها بالجنيه والقرش، بل نعرف أننا إذا أهملنا تحصيل المال ورضينا بالحرمان، أو بما يقارب الحرمان من الكسب القليل والمدخر الصغير فإننا لن نحصل على حاجاتنا من الحضارة والثقافة، وعندئذٍ لا يكون أمامنا من وسائل البقاء أحياء غير التسول أو الإجرام.
في مجتمعنا الحاضر تُعَدُّ القدرة أو الكفاءة على تحصيل المال من الواجبات الأولى لكل شاب أو فتاة، وليس شك أن الفقير الأبي يمكنه أن يمارس الفضائل في قناعة، أو على الأقل بعض الفضائل، ولكن المحروم لا يستطيع ذلك إلا إذا تسوَّل.
والاشتراكي الذي يتفاءل بالعلم ويؤمن بالمستقبل يجد الوقت قريبًا حين يزول الفقر، ولكن إلى أن نبلغ هذا الوقت يجب أن نؤكد قيمة المال في حياتنا الاجتماعية الحاضرة.
يجب أن نهدف جميعًا إلى الغنى، ولكن يجب أيضًا أن نحذر الغنى، إني كثيرًا ما أتأمل الأثرياء الذين يستمتعون بالمال والعقار، ويستخدمون الموظفين لإدارة أعمالهم ويستأجرون العمال في زيادة ثرائهم، فأجد ما يستغرب ويبعث على التفكير، فإن العامل يعمل في اليوم ثماني ساعات فقط، وعنده بعد ذلك نحو ثماني ساعات للاستمتاع بحياته مع زوجته وأبنائه أو مع أصدقائه، أو هو يُمضي هذه الساعات أو بعضها في القراءة أو التفريج برؤية بعض الملاهي، وكذلك الشأن بين الموظفين.
ثماني ساعات أو أكثر أو أقل يعملون فيها لكسب العيش، ثم بعد ذلك فراغ، هم أحرار في استعماله.
ولكن الثري الذي يستخدم هؤلاء الموظفين والعمال أنفسهم كثيرًا ما تحمله شهوة الثراء على أن يعمل ١٢ أو ١٤ ساعة في اليوم يمضيها وهو قاعد إلى مكتبه يحسب ويعد ويراجع ويفكر، فإذا قصد إلى بيته بعد ذلك كان خائرًا مرهقًا لا يستطيع مؤانسة أبنائه أو الاستمتاع بأية متعة إنسانية جميلة.
هو عبد لثرائه، وليس سيدًا له، والأغلب أنه يموت قبل الستين، لكثرة الإرهاق المضني، وتحمل الهموم الخاصة بأعماله، وقلقه الدائم على مكاسبه، وخوفه من الخسارة ونحو ذلك، وهذه الحالات هي أمراض العصر الحديث الذي عمَّ فيه القلق، واحتدت فيه المباريات للسعي المجهد وراء الثراء.
وإذا عمدنا إلى المقارنة بين هذا السيد الثري وبين موظفيه وعماله، من حيث القيم الإنسانية وجدنا هؤلاء يفضلونه؛ إذ هم أصح أجسامًا وأنور عقولًا وأهدأ بالًا منه، ونظرتهم للحياة أكثر تفاؤلًا منه، وكثيرًا ما أسمع كلمة «عصامي» في معرض المدح والتقدير، وليس شك أن الفقير الذي يرفع نفسه بجهده واستقامته إلى مكانة عليا أو متوسطة جدير بالثناء، إذا كان قد وصل إلى هذه المكانة بالوسائل الشريفة النظيفة، ولكني حين أتأمل بعض العصاميين في سلوكهم، والغطرسة التي يبدونها والفخر الدائم بأنهم كانوا فقراء فجدوا حتى وصلوا، وحين أسأل عن الوسائل التي استعملوها حتى وصلوا إلى مكانتهم الثرية أحسُّ اشمئزازًا منهم.
وجمهورنا الذكي يحسُّ هذا الاشمئزاز من جلافتهم، ويسميهم «أغنياء حرب» أو «محدثين»، ولم تَعُدْ تغريه كلمة «عصامي».
وهذه الجلافة مع الثراء برهان على أن هؤلاء العصاميين أمضوا طيلة أعمارهم الماضية وهم في الجمع والاقتناء، فلم يرفهوا عن أنفسهم بشيء من تأنقات الحضارة المادية أو المعنوية، ولم يقرءوا كتابًا، ولم يناقشوا موضوعًا، ولم يحضروا حفلة، ولم يصادقوا رجلًا راقيًا، وإنما عاشوا في المجتمع، منفردين لا يختلطون بأفراده إلا حين يكون لهم مأرب مالي وكسب منتظر، ومن هنا جهلهم الذي نشمئز منه، ومن هنا أيضًا محاولتهم تغطية هذا الجهل بأساليب مسرفة في الكرم البدائي، كأن يدعو أحدهم بعض الكبراء أو الممتازين إلى وليمة تحوي لحومًا وحلويات بكميات هائلة أو نحو ذلك.
ولكن أسوأ ما في العصامي أنه جمع أمواله في كثير من الحالات بطرق غير مشروعة في الكسب، والقاعدة في المباراة الاقتصادية الحاضرة هي: «اشترِ رخيصًا وبِعْ غاليًا»، وكثيرًا ما يحمل هذا المثل معاني أخرى في غش السلعة، أو البخل على العامل بالأجر غير اللائق، أو نحو ذلك مما يعجز القانون عن علاجه.
هذا هو شأن العصامي، ولكن شأن الوارث أسوأ، وذلك أنه قد يخلو من الجلافة التي تبدو على العصاميين الذين «صنعوا أنفسهم»، ولكنه أي الوارث، ينشأ في نعومة وترف يحملانه على الكسل والتراخي، والسعي وراء المتع التافهة، وكراهة المسئوليات، فيفقد الرجولة بل الإنسانية.
وقد بدأتُ كلمتي هذه بتأكيد القيمة العظمى للثراء، والسعي لتحصيل العيش الكافي، بل أوضحت أن المحروم إما أن يتسول وإما أن يرتكب جريمة السرقة، والفقير المحتاج يكاد يشبه المحروم، وذلك؛ لأننا لا نستطيع ممارسة الفضائل الاجتماعية، فضلًا عن أن نرقى بأنفسنا، إلا إذا كنَّا على شيء من اليسر المضمون.
فليكن جمع المال لهذا اليسر المضمون المأمون رائدنا، ولكن يجب أيضًا ألا نكون عبيدًا للمال، نجهد ونعرق، ونعتقد أنه غاية الغايات، فلا نبالي كيف نجمعه، وعلينا ألا ننسى أن المال هو بعد كل ذلك وسيلة للطمأنينة والاستمتاع، فلنجمع منه ما يكفي الطمأنينة والاستمتاع ولا أكثر؛ لأن ما يزيد على ذلك هو عبء نحمله بالمجان، ولا ننتفع به؛ لأنه يجهدنا ويبلينا ويميتنا قبل الأوان.