كان تولستوي يحرث الأرض
كان تولستوي نبيلًا وثريًّا وأديبًا، كان يحمل لقب «كونت» كما كان يملك ضيعة كبيرة، وإلى هذا كان يحترف الأدب العالمي ويؤلف القصص الخالدة التي يعرف منها القراء «أنا كارنينا» و«الحرب والسلام» وغيرهما.
ومع هذه المكانة كان يخرج إلى الحقل ويقود زوجين من الخيول يجران محراثًا يحرث الأرض ويهيئها للزرع، وأنا أكتب هذه الكلمة وأمامي صورته، وهو في هذا العمل المجهد قد أطارت الريح لحيته، وهو والجوادان يلهثون من التعب والجهد.
كان تولستوي رجلًا «طيبًا» تشع الطيبة من أخلاقه ومؤلفاته، وكان يعتقد أن الأرض يجب أن يملكها الفلَّاحون الذين يفلحونها، ولا يملكها الذين ينامون على الكسل ويستيقظون على الكسل ولا يعملون ولا ينتجون، وكان قد اصطدم بعائلته؛ إذ كان قد شرع في التنازل عن أرضه للفلاحين، ولم ينجح بالطبع في هذا الإجراء؛ لأن زوجته وسائر عائلته صمدوا له ومنعوه من هذا العمل.
فكان يرضي ضميره الاشتراكي بأن يؤدي بيديه من وقت لآخر عملًا وضيعًا، أو ما نسميه «وضيعًا» في ضوء القِيم الأخلاقية التي نشأنا عليها، فكان يحرث هو الأرض ويحصد القمح ويصنع الأحذية ويقطع الشجر ونحو ذلك.
وليس شك أن هذه الأعمال كانت ترضي نفسه بعض الشيء، ولكنه مع ذلك كان ينظر منها إلى مأرب آخر، وذلك أنه كان يجد في التزامه الكتابة على مكتبه وسكون جسمه إليه إماتة لعضلاته وتعطيلًا لنشاط جسمه، فكان يمارس هذه الأعمال الزراعية كما نمارس نحن الألعاب الرياضية.
وقد كانت له حكمة في ذلك، فقد كان يقول: إننا إنما نمارس الألعاب الرياضية؛ لأننا لم نعد نعمل أعمالًا تحتاج إلى تمرين العضلات؛ إذ تركنا هذه الأعمال للفلاحين والنجارين وغيرهم من العمال الفقراء، وارتضينا لأنفسنا أعمالًا لا تطالبنا إلا بأقل الجهد العضلي، مثل الكتابة والإدارة وغيرهما.
وبكلمة أخرى: لو أننا كنَّا جميعًا نعمل بأيدينا أعمالًا منتجة ونجهد عضلاتنا في زرعٍ وريٍّ وحصاد وتقطيع للشجر، أو استخراج لمعادن من منجم أو بناء للمسكن أو تمهيد لطريق أو تشييد لجسر، لو كنَّا نفعل ذلك لما احتاج أحدنا إلى الألعاب الرياضية؛ إذ إن هذه الأعمال كانت جديرة بأن تغنينا بما فيها من مجهود عضلي وجسمي عن الألعاب كافة.
وهذا قول لا أستطيع أن أقول: إنه يحتوي كل الصحة، ولكنه يحتوي على كثير منها، وكان تولستوي يحرث الأرض لهذا السبب بدلًا من أن يلعب الكرة أو يمارس السباحة.
وحياة الطبقة المتوسطة في المدينة هي في الأكثر حياة القعود، وليس متاحًا لنا أن نحرث الأرض كما أتيح لتولستوي؛ ولذلك نحن نحتاج إلى ألعاب رياضية تحرِّك عضلاتنا الراكدة، وتبعث القلب على النشاط، وتجعلنا نعرق ونلهث، هذا العرق وهذا اللهث اللذان لا يحتاج إليهما الفلَّاح؛ إذ هو يجد الكفاية منهما في حرثه وريِّه وحصاده للقمح أو جنيه للقطن.
ولما دعا جان جاك روسو دعوته إلى العودة إلى الطبيعة كان ينظر من خلال هذه الدعوة إلى أولئك الملايين من الرجال والنساء في المدن، الذين لم يعرفوا قط آفاق الطبيعة الرحبة وهواء الحقول المنعش وشهوة الحركة بالجري والوثب على الخضرة، ورؤية الحيوانات على فطرتها الساذجة الجميلة، ونحو ذلك.
ونحن نمارس الألعاب الرياضية كي نتعوض بها من حياتنا الراكدة المتكلفة في المدن؛ ولذلك نؤثر تلك المصايف التي نستطيع فيها أن «نسقط الكلفة» على الشواطئ، فنسير حفاة أو نلبس الجلابيب الفضفاضة، وننسى المواعيد ونتعرض للشمس ونثب في الماء ونضحك من أتفه النكات، ونقرأ السخف من المجلات ونمرح ونزأط كما لو كنَّا حيوانات.
والحق أن في نفوسنا شهوة لأنْ نكون حيوانات، فإن حياتنا المتمدنة تثقل ضميرنا بالمسئوليات، وترهق عقولنا بالمشكلات، وتثير في نفوسنا مطامع بعيدة، وتجعلنا نعيش في مباريات تبعث أحيانًا الحسد والبغض؛ ولذلك نشتاق إلى التخلُّص من جميع هذه الأشياء التي ترهقنا ونرغب في شيء من السذاجة الحيوانية، فنحيا في المصايف شهرًا أو أكثر، وكأنه ليس لنا همٌّ أو اهتمام في الدنيا بغير الطعام والحديث والجري والسباحة والوثب والضحك.
والرياضة هي تنظيم لهذه الشهوات، وهي تقوم على تعليم الشباب كيف يمرنون عضلاتهم التي أضعفتها عادات القعود للدرس أو العمل الكتابي، وكيف يمضون فراغهم بعيدين عن إغراء البطالة بالاستسلام لعادات سيئة تعود بالضرر على الصحة والأخلاق.
والجسم هو مجموعة كفاءات عقلية وعصبية وعضلية، والصحة المثلى تحتاج إلى تنشيط هذه الكفاءات جميعها، وليس واحدة منها فقط، وحياتنا المتمدنة الراكدة تحتاج إلى تحريك وتنشيط كفاءتنا العضلية المعطلة.
ومن هنا قيمة الرياضة، ومن هنا الاهتمام بمهرجاناتها.