قديمنا وجديدنا
إذا قيل لأحد الشبان: «إنك قد تعودت الشراب أو التدخين أو الكسل، وإنك يجب أن تغير هذه العادات حتى تتاح لك فرص النجاح والتوفيق»، فإنه مع ما يجد من الصعوبة في التغير يسلِّم بقوة المنطق في هذه الكلمات ويحاول أن يتغير.
ويجب أن يكون الشأن كذلك في العادات القومية السيئة، وهي قومية من حيث إنَّ العرف يتطلبها، ولكنها شخصية أيضًا من حيث إن كل فردٍ يمارسها ويكاد يؤمن بتقديسها، ويخشى مخالفتها؛ لأنه عندئذٍ يكون عُرضة لألوان من التحقير الاجتماعي.
وبعض عاداتنا القومية والشخصية ينحدر إلينا من تاريخنا الماضي الذي يخالف التاريخ الحاضر؛ ولذلك لا تتفق هذه العادات مع حياتنا العصرية، وهي ترهقنا بتكاليف كبيرة يضيع فيها الوقت والمال، ولكن بعض عاداتنا القومية والشخصية أيضًا قد جُلبت إلينا من الخارج، وهي باهظة التكاليف أيضًا، إذا كان الأوروبيون يمارسونها؛ فلأنهم أثرياء، أما نحن ففي فقرنا الحاضر، لا نكاد نتحملها إلا مع الإرهاق الذي يتعبنا ويعسرنا.
رأيت هذين الشهرين الماضيين حادثين:
الأول: بشأن عاداتنا القديمة المنحدرة إلينا من التاريخ، فقد مات رجل فقير لم يكن يكسب في حياته أكثر من عشرة جنيهات في الشهر، وأخلف زوجة وثلاثة أبناء كل منهم في حاجة إلى القرش الأبيض الذي ينفع في اليوم الأسود، ومع هذا الفقر أقامت له زوجته مأتمًا أمام منزلها يتألف من سرادق وكراسي وأرائك وخدمة للمعزين؛ حيث يشربون القهوة وما إلى ذلك، مما استنفد الجنيهات الغالية التي كانت هي وأبناؤها أحق بها وأحوج إليها، ولا بدَّ أنها قتَّرتْ في الإنفاق على أبنائها بعد ذلك، ومنعت عنهم حاجاتهم الحيوية؛ كي تعوِّض الخسارة الفادحة التي تحملتها في الإنفاق على أُبَّهة المأتم لزوجها.
هذه إحدى العادات القديمة التي يُسأل عنها المجتمع، والتي يقع الضرر منها على الفرد.
وكذلك رأيت في الشهرين الماضيين عُرسًا بلغت أثمان الزهور التي قُدمت هدايا للعروسين فيه ما لا يقل عن سبعين جنيهًا؛ إذ كانت من الكثرة بحيث ازدحم البيت بها، وما هو أن طلع الصباح في الغد حتى أزيحت ونُقلت جميعها إلى صندوق القمامة.
وقد أخذنا هذه العادة عن أوروبا، فهي عادة عصرية، ولكنها من أسوأ العادات؛ إذ هي تبذير سخيف، وكان جدودنا أعقل منَّا؛ إذ كان العريس يقعد بعد الزفاف ويضع طربوشه مقلوبًا في حجره، ثم يتقدم إليه الضيوف بالهدايا وهي هدايا من النقود، فما هو أن ينتهي الحفل حتى يكون قد جمع في طربوشه نحو سبعين جنيهًا ينهض بها فرحًا ويتهيأ بها هو وعروسه كي يشتريا ما يحتاجان إليه من أثاث العُشِّ الجديد.
وقد تركنا هذه العادة السامية النافعة وأخذنا بعادة إهداء الزهور العقيمة، وهذا برهان على أن القديم ليس على الدوام سيئًا لأنه قديم، كما أن الجديد ليس على الدوام حسنًا لأنه جديد؛ إذ يجب أن نتعقل ونختار، بل يجب أن نبتدع.
ولكن هنا الصعوبة، فإننا كثيرًا ما نتردد بين القديم والجديد، وفي أغلب الحالات يحن القلب إلى القديم، ولكن العقل ينزع إلى الجديد، وهنا الصراع والتردد اللذان يشلَّان العقل عن التفكير والإقدام، ويبعثان الكمد والجمود في النفْسِ.
فنحن مثلًا في صراع وتردد في شأن المرأة المصرية، فمنا من يقول بأن رسالة المرأة هي حمل الأطفال وخدمة الزوج ولزوم البيت، أو أنَّ هذه الواجبات هي رسالتها الأولى، وهذا هو الرأي القديم.
ومنَّا دعاة الرأي الجديد الذين يقولون بأن المرأة يجب أن تخدم شخصيتها قبل أن تخدم الزوج أو البيت أو الأبناء، وأنها لذلك يجب أن تختلط بالمجتمع، تعمل كالرجال سواء في الوظيفة الحكومية أو التجارة أو الصناعة.
ولكلٍّ من هذين الرأيين ملابساته السيكولوجية، فدعاة القديم يقولون بأن المرأة دون الرجل في الكفاءة، وكذلك في الميزات البشرية الأخرى، ولا يزال اليهودي بحكم التقاليد حين يصلي يشكر الله؛ لأنه لم يخلقه امرأة، ودعاة الجديد يطلبون من المرأة أن تتعلم وتتفوق وتملأ المناصب العليا في الدولة كالوزارة والسفارة ونحوهما.
والفتاة نفسها تحسُّ هذا الصراع والتردد، فهي سافرة ولكن في نفسها إحساس الحجاب، وهي تعمل في الوظيفة، ولكن في نفسها أن سعادتها أو بالأحرى كرامتها لن تتم إلا بالزواج، وأن الزواج مهما حقر وهان خير من العمل الحر الكريم.
وكذلك الأب يؤمن بتعليم ابنته، ولكنه يقف عند نيلها الشهادة التوجيهية ويرفض إدخالها الجامعة.
وهذا التردد وهذا الصراع يبدوان في الحوادث اليومية والمشكلات العائلية والزوجية، فإن الشاب الذي نشأ على العادات والتقاليد لا يسلِّم بتاتًا بأن للمرأة حق التصرف بحياتها؛ إذ هو يحسُّ أنه وكيل عنها في حياتها؛ ولذلك يأخذ على عاتقه حماية عرضها، وقد يقتلها إذا خالفت المألوف في هذه المسألة، ثم يأتي القاضي «العصري» فيحكم بإعدامه، ولا يجد في دعاويه عن العرض أقل مبرر للتخفيف عنه.
والشاب الذي يحيا في هذا الوسط يحسُّ في نفسه صراعًا بين عاداتنا القديمة التي تطالب المرأة بالحجاب النفسي، بل بشيء أيضًا من الحجاب المادي، وبأن تخضع الخضوع التام لزوجها واندغام شخصيتها، بل إعدامها في شخصيته، وبين الرأي الجديد الذي يحمِل بالطبع معه أخطاره أيضًا، وهو الذي يقول بأن للمرأة شخصيتها الإنسانية وحريتها الاجتماعية وارتقاءها الذاتي وحظها الذي تصنعه بنفسها في هذا الوجود.
ماذا نفعل في هذا الصراع؟
أول ما يبدو هنا فيه أنه صراع بين القرن العشرين والقرون الماضية، وأن الظروف التي حملت الشعوب الأخرى على الأخذ بعادات اجتماعية جديدة هي نفسها الظروف التي نعانيها نحن الآن، والتي تلابسنا ونلابسها، وإذن يجب أن نأخذ بهذه العادات الاجتماعية الجديدة، بل إننا سنضطر إلى الأخذ بها؛ لأنها نشأت بضغط هذه الظروف، وليس هناك سوى الضرر في التأخير في الأخذ بها.
وفي مجتمعنا المصري جيوب اجتماعية قديمة لها عرف وتقاليد وأخلاق تختلف جميعها من الموكب العامِّ للارتقاء، فإن الأخلاق السائدة في أسرة العمدة في القرية تختلف عن الأخلاق السائدة في أسرة الطبيب في القاهرة، والفتاة الناشئة في أسرة العمدة تكاد تَعُدُّ الفتاة الناشئة في أسرة الطبيب شاذَّة في أخلاقها حمقاء في سلوكها. ولكننا، نحن المتمدنين، نعرف مَن منهما هي الفتاة الراقية المتمدنة.
ويجب أن يقف الشاب في صف الرقي، كما يجب أن يصرَّ على أن يكون من أبناء القرن العشرين ما دام يعيش فيه، ويجب أن يختار بين العادات النافعة والضارة.