أعظم اللذات
هناك ملذات مادية نشترك فيها مع الحيوان، مثل لذة الأكل أو الجنس، وهذا الاشتراك لا يعيبنا؛ إذ إننا قبل كل شيء حيوانات، لنا خئولة وعمومة في القردة والسباع والبهائم، بل السمك والمحار، تربطنا جميعًا قرابة تطورية تعود إلى مئات الملايين من السنين.
ولكننا نحن البشر نمتاز عن الحيوانات بأن لنا أيضًا ملذات روحية، وأسمى هذه الملذات هي لذة الفهم، وصحيح أن الحيوان يفهم، ولكن فهمه بدائي ساذج، معظمه انعكاسات مباشرة أو مكيفة تكييفًا صغيرًا.
أما نحن فإننا نفهم ما يمكن أن نسميه الفهم الكبير، أي الفهم التصوري الذي يتجاوز الأشياء المادية إلى النظريات والمبادئ والتعميمات، وقد وصلنا إلى هذه الميزة بالعقل ثم باللغة ثم بالكتابة.
فنحن نعرف معاني أمس وغد، وكذب وصدق، وكوكب ونجم، مما لا يمكن أن يفهمه الحيوان؛ إذ ليست له لغة؛ ولذلك لا يستطيع التصور إلا قليلًا بل قليلًا جدًّا.
ولذلك أيضًا نحن نتعب ونفكر كي نفهم، ونحس لذة الفهم حين تنبلج لنا حقائق تتجاوز الشيء المفرد، نعرفه بالإحساس والتخصيص، إلى مجموعة الأشياء، نعرفها بالتصور والتعميم.
وعندئذٍ تتكون لنا النظريات التي تجعل التفكير العلمي ممكنًا.
والفهم العالي هو بحث لا ينقطع ولا يقف للوصول إلى التعميمات، واستخراج النظريات التي تغني إحداها عن آلاف المعارف المتفرقة، ومن هنا القيمة الكبرى للدراسة الدائمة؛ كي نقف على حقائق الكون والدنيا والمجتمع، فإن هذه الدراسة تجمع المعارف التي نقارن بينها ونستخرج منها النظرية أو على الأقل المبدأ، وعندئذٍ يخترق ذكاؤنا الحقائق فنزداد فهمًا، ونجد لذة هذا الفهم في عقولنا بما لا تقاس به أية لذة أخرى.
وأعظم ما يعوقنا عن الفهم هو أن نعتزل المعارف، ونقنع بأن نتعلم أو نعرف شيئًا واحدًا، ثم «نتقوقع» في هذا الشيء، أي نسلك بشأنه كما تسلك القوقعة حين تدخل في صدفتها قانعة بالسكون، وكثيرون منَّا يفعلون ذلك كالتاجر لا يعرف غير متجره وبيته، أو كالمهندس لا يدرس غير الهندسة، أو الزوجة لا تهتم إلا بزوجها وأبنائها، وكأن الدنيا تحد بحدود الجدران في المنزل الذي تسكنه.
هذا الاعتزال، هذا التقوقع، هذا ما يحدُّ من فهمنا نحن عامة الناس، بل يحدُّ من الفهم عند أعظم الأذكياء، كرجل العلم الباحث الذي ينكبُّ على معمله، يبحث ويجرب بشأن إحدى المواد أو أحد الميكروبات، ثم يستغرق هذا البحث كل وقته وكل مجهوده حتى لا يجد فسحةً من وقت أو جهد كي يدرس الآداب والفنون أو التاريخ والاقتصاد.
إنه بهذا التخصص، بهذا الانعزال، ينعزل أو يتقوقع، وكأن تخصصه مدعاة جهله وليس وسيلة ثقافته.
الثقافة تعميم والعلم تخصيص، ويجب كي نكون أذكياء نحس لذة الفهم العامِّ أن نكون مثقفين، لا أن نكون علماء فقط أو أدباء فقط، أي يجب أن نعرف العلم والأدب والفن والتاريخ والاقتصاد.
النظرة الشاملة التعميمية هي نظرة الرجل المثقف، أي الرجل الذي يتسم بسمات الإنسانية العالية أو التمدن المهذَّب.
كانت كليات العلوم في أوروبا إلى وقت قريب تعلم طلبتها علمًا معينًا يتخصصون فيه، ولا يكادون يعرفون غيره إلا القليل الذي تزودوا به من المدرسة الثانوية، أما الآن فإن الجامعات الممتازة تصرُّ على تعليم طلبة العلوم المتخصصين شيئًا من الفنون أو الآداب أو التاريخ أو الاقتصاد، إلى جانب تخصصهم العلمي، وذلك لزيادة الفهم ولإيجاد صلة بينهم وبين المجتمع الذي يتخصصون لخدمته بعلم أو فن معين.
ورجل العلم حين يخرج من قوقعة التخصص إلى رحاب الثقافة العامة لا يزيد مهارة في عمله، ولكنه يزيد حكمة ونضجًا في معاني الإنسانية والمجتمع والمستقبل البشري، فيجد نفسه سعيدًا يلتذُّ هذا الفهم العام، ويحيا طيلة حياته وهو يستطلع حقائق الحياة والخير العامَّ.
وقبل أن تنص هذه الكليات التي ذكرناها على تعليم طلبة العلم مواد أخرى لا تتصل بتخصصهم وتجاربهم العلمية كان الناضجون من العلميين يفعلون ذلك تلقائيًّا؛ لأنهم وجدوا بذكائهم أنهم في حاجة إلى هذه الثقافة العامة، لاتِّزان عقولهم ونضج تفكيرهم، بل وجدوا في هذه الثقافة العامة ما ينير أذهانهم عن قيمة تجاربهم العلمية.
إن أسوأ ما في التخصص ضيق الأفق، وأحسن ما في الثقافة رحابة الأفق.
إن «فيلاتوف» المعروف بين المتخصصين في طب العيون بترقيع المقلة والحدقة ينظم الشعر ويقرأ القصة ويتابع السياسة، و«هولدين» يدرس الاقتصاد مع تخصصه في درس الإحصاء، و«بيرنال» أعظم رجال العلم في إنجلترا يؤلف كتبًا عالية في تاريخ الحضارة، وأذكر أني لم أقرأ فصلًا عن أديب ألمانيا «جوتيه» خيرًا مما كتبه «متشنيكوف» الذي يعرفه الفسيولوجيون بما له من فضل في تعيين مهمة الكريات البيضاء في الدم.
هؤلاء وغيرهم من رجال العلم المتخصصين عرفوا اللذة الروحية في ذكائهم حين خرجوا من تخصص العلم إلى تعميم الثقافة، ثم هم بهذا التوسع استطاعوا أن يربطوا بين العلم والمجتمع، هذا الربط الذي جهله أولئك الذين تخصصوا في اختراع القنبلة الذرية، وساروا في تجاربهم الجهنمية حتى النهاية المفزعة في هيروشيما، ولو أنهم كانوا مثقفين وليسوا علميين فقط، لكانوا عندئذٍ إنسانيين.
الثقافة العامة تزيد فهمنا وتجعلنا إنسانيين، كما تزيد سعادتنا؛ لأنها تتيح لنا أسمى اللذات، وهي لذة الفهم والذكاء.