الاستقلال الفكري
عندما نجد طفلًا قد بدت عليه أعراض النقص في الغذاء؛ لجهل الأم في اختيار طعامه أو لفقرها عن شراء ما يحتاج إليه، ننصح لها عادة باختيار طعام رخيص يحتوي على جميع العناصر التي يحتاج إليها الطفل كي ينمو النمو السوي.
وربما كان أحسن هذه الأطعمة بيضة يتناولها الطفل كل يوم أو كل يومين، فإنها تحوي جميع العناصر التي يحتاج إليها الفرخ من لحم إلى شحم، ومن أظافر إلى ريش، ومن دم إلى عظم، ومن عصب إلى عضل … إلخ، وهي إذن جديرة بأن تصحح الخطأ في اختيار الطعام للطفل، وتعوض النقص الذي تقع فيه الأم حين تختار له الرز أو الحلوى، أو تسرف في إطعامه الخبز وسائر تلك المواد النشوية التي لا ينمو بها وإنما يسمن فقط.
وليست البيضة بالطبع كل شيء، ولكنها ضمان من الجهل الذي تتسم به بعض الأمهات، وخاصة إذا كنَّ فقيرات لا تتنوع الألوان على مائدتهم، ولا يتوافر عليها اللبن وبعض المواد البروتينية التي يحتاج إليها الأطفال.
والأم العاقلة تفكر في نمو الطفل أكثر مما تفكر في تسمينه بحشو بطنه بالمواد النشوية الرخيصة.
وكذلك يجب أن يكون شأن الشاب في اختيار غذائه العقلي، فإنه يجب ألا يحشو ذهنه بتلك المعارف التي تحفظ أي تستذكر، فإنها حشو يتضخم بها الذهن، ولكنه لا ينمو؛ إذ هي للذهن بمثابة المواد النشوية للجسم؛ ولذلك عليه أن يأخذ بتلك الثقافة التي ينمو بها ذهنه بالتأمل والتفكير والبحث والاستقلال.
إن الثقافة نوعان: ثقافة يعتمد فيها على الذاكرة ومعظم الدراسات القديمة تجري هذا المجرى، حيث يكلف التلميذ أو الطالب الحفظ عن «ظهر قلب»، ويكاد يعجز لهذا السبب عن الابتكار في البحث أو الاستقلال في التفكير؛ إذ هو يتضخم دون أن ينمو.
والنوع الثاني هو تلك الثقافة العلمية الجديدة التي لا تطالب أحدًا بالاستذكار، وإنما بالتفكير. وهذه الثقافة هي ابتداع جديد ووعي جديد في الإنسان، ومع أنها قد بزغت منها بوازغ عند الشعوب القديمة من المصريين إلى الإغريق إلى العرب، فإنها لم تنتشر إلا منذُ أقل من أربعمائة سنة.
ثقافة العلم هي ثقافة الابتكار والاستقلال، التي دفعت بالإنسان إلى التساؤل، فرفض التسليم بالمعارف القديمة، وجعل يسأل ويبحث ولم ينخدع بما كان يقال بأن الأسلاف كانوا حكماء، وأنهم عرفوا كل شيء، وإنما سلَّم بجهله وجهلهم، ورفض أن يستذكر ويحفظ عن «ظهر قلب»، وانتهى بحقائق العلم التي غيَّر بها نفسه ومجتمعه، بل هو يغير بها الآن الدنيا بأرضها وبحارها وجبالها، ثقافة العلم هي التي جعلت الإنسان يكتشف قارة جديدة يعيش فيها الآن أكثر من أربعمائة مليون إنسان، هي أمريكا.
وثقافة العلم هي التي جعلتنا نصعد إلى السماء ونكاد نلغي المسافات، فقطع ما بين القاهرة ولندن في أربع ساعات أو أقل.
وثقافة العلم هي التي جعلتنا نعالج ونشفي نحو ٢٠ أو ٣٠ مريضًا بالضديات.
وثقافة العلم هي التي ننتظر منها أن نعيش أصحاء نحو ٣٠٠ أو ٤٠٠ سنة.
وثقافة العلم هي التي جعلتنا نقف على أسرار الكون في أصله ونهايته، بالوقوف على أسرار الذرة بعد أن كنَّا نؤمن بالخرافات.
إن الثقافة السيئة مثل الغذاء السيئ تجعلنا نتضخم بالمعارف ولكننا لا ننمو، وهذه هي ثقافة الاستذكار، أي الحفظ عن ظهر قلب، أما الثقافة العلمية فهي مثل البيضة للطفل تكفل لنا النمو الذهني.
والواجب الأول على كل شاب أن يعرف الفرق الأساسي بين هاتين الثقافتين، وأن يزود نفسه حين يشرع في الوعي الثقافي بعلم من العلوم يدرسه، ويتدرب على مناهجه ويتعلم منه طرق البحث والاستقلال في التكفير، وضرورة النقد القاسي للأخطاء والأوهام التي يقع فيها الحافظون عن «ظهر قلب».
ولا يمكن الشاب أن يكون عصريًّا إلا إذا عرف علمًا من العلوم.
وليس هناك استظهار في العلوم، أي ليس هناك حفظ عن ظهر قلب لمعارف مثبتة بالتجربة.
وهو حين يفعل ذلك يحسُّ الاستقلال الفكري، وأنه ليس هناك من يستعمر ذهنه ويقسره على التسليم ويطالبه بالحفظ الأعمى الأصم.
ولن يستطيع أحد منَّا أن يفهم التطور السريع الذي يجري هذه الأيام في عالمنا إلا إذا تعمق العلوم على قدر ما تسمح له به ظروفه، وليس شكٌّ أن أحفادنا وأحفاد الأحفاد سينهجون المنهج العلمي في حياتهم وأسلوب عيشهم وزواجهم وطعامهم وسكناهم وإنتاجهم أكثر منَّا مائة ضعف، ولكن مع عجزنا الحاضر عن أن نكون علميين في تفكيرنا مائة في المائة علينا ألا نهمل القليل الذي زودنا به العلم كي نتصل بحقائق الدنيا والكون والحياة اتصالًا سليمًا، أي اتصالًا استقلاليًّا بالبحث والدرس وليس اتصال العبيد بالسادة يأمرونهم بالطاعة فيخضعون.
إن العلم في عصرنا هو الذي يقرر القوة لعارفيه وممارسيه، وهو الذي يقرر الضعف لمن ينكرونه ولا يدرسونه، العلم هو فنُّ القوة بجميع معانيها.
إن العلم هو الذي جعل الأمريكيين والإنجليز يستولون على كنوز البترول في الأقطار الشرقية، بينما أبناء هذه الأقطار الذين لا يزالون يعتمدون على ثقافة الاستذكار والحفظ عن ظهر قلب للعقائد يخضعون لهم راضين بالقليل الذي يعطيهم إياه الأمريكيون والإنجليز من أطراف أصابعهم.
أيها الشاب: تعلَّم علمًا من العلوم، واستقلَّ في تفكيرك، وزِد بلادك قوة وثراء وخيرًا.