الفنُّ من الدِّين
قرأتُ في إحدى الصحف أن المطربة فايزة أحمد ستغني أغنية جديدة تقول فيها:
وتقول الصحيفة: إن الذي ألَّف هذه الأغنية هو الأستاذ سيد مرسي، وإن ملحنها هو الأستاذ بليغ حمدي.
وقد وقفت عند هذا الخبر أتلبث وأتأمل في هذا المجهود، يبذله ثلاثة من الفنانين؛ واحد يؤلف هذه المعاني المنهارة المائعة الخائرة، والثاني يلحن، والثالث يغني، ثم الجمهور يسمع.
وأعظم ما يكون الإيحاء في قوته هو وقت الاستماع إلى الغناء؛ فإن اللحن يسري في نفوسنا ويغمرنا بالمعنى، وعندئذٍ تكون له قوة تنويمية؛ ولذلك كثيرًا ما نساير اللحن فنغني على إيقاعه، ونصعد ونهبط على نغماته، ثم تستقر في نفوسنا كما لو كانت عقيدة أو إيمانًا.
ولا تظن أيها القارئ أني ألوم هؤلاء الثلاثة من الفنانين على عنايتهم في اختيار هذه المعاني وتلحينها وغنائها، فإن أقلَّ ما يستطيعون أن يعتذروا به أنهم شعبيون، وأن هذه المقطوعة تمثل ذوق الشعب ومستواه الفني، وأنهم إذا ما ارتفعوا عن هذا المستوى فلن يجدوا الاستجابة من الجماهير المستمعة أو على الأقل لن يجدوا الاستجابة المنشودة.
وهم صادقون في هذا الاعتذار إلى حدٍّ كبير.
ذلك أن الإحساس الفني ينبع من الشعب، ولو أن شعبنا كان قد تغير في نظرته للحياة والمجتمع والأخلاق لتغير الفنانون أيضًا.
ولكني أسارع إلى القول بأني مع ذلك أجد أن الجمهور قد تغير، وأن تغيره قد أحدث بعض التغير في فنوننا جميعها، بدليل القصص الجديد الذي يدعو إلى الحُب، وبدليل الموسيقى العالمية التي أصبح جزء كبير من الشعب يسيغها ويطلبها، وبدليل العدد الكبير من الأغاني الجديدة التي تحمل المعاني الإنسانية، وأخيرًا بدليل فن الرقص البارع الذي يتعثر الآن في خطواته، ولكنه سوف يستقيم ويتجه الوجهة الصحيحة في المستقبل، وأعني الرقص الذي يحمل الراقصة إلى أن تنظر إلى أعلى وليس إلى أسفل.
والقاعدة الأصلية التي يجب ألا ننساها هي أنه من العبث أن نُقحم الألحان الجديدة أو طرق الفن الجديدة على جمهور لم يتجدد، وأعظم ما يدلُّ على أن المجتمع لم يتجدد هو أن الفنون التي يتشوق إليها ويعجب بها لم تتجدد.
المجتمع هو الأصل والفنون هي النتيجة وليس العكس.
ولكن مع ذلك هناك تجارب، فإن الفنان الذي تغيرت نظرته للحياة والمجتمع والأخلاق يمكن أن يؤلف شيئًا جديدًا في الفن يقبله الجمهور، وهو يقبله؛ لأن الفنان على الرغم مما تجدد في نفسه لا يزال ينتمي إلى هذا الجمهور، وهو في تجدده لا يبتعد عنه كثيرًا، كما أن شيئًا من التغير والتجدد قد تحقق في هذا الجمهور نفسه حتى جعله يسيغ الجديد في الفنون.
ومن شأن العاطفة والعقيدة والموقف الاجتماعي أن تتريث كلها وتتخلف عند التغير في المجتمع، وهنا قيمة الفنان الواعي، فإنه يسبق المجتمع ويؤلف له وفق تطوراته الأخيرة، فيجد استجابة.
ونستطيع أن نعبر عما نقصد في كلمات أخرى، فإن التغير الذي يبدأ ضعيفًا في المجتمع، بل يبدأ على غير وعي، يحتاج إلى أن يعبر عنه الفنان ويفصح عنه بألوان من الفنون الرفيعة، فيحيل الإحساس غير الواعي إلى إحساس الوعي الكامل.
والشعب من حيث الوعي الفني طبقات وطوائف، بعضها على وعي وبعضها على نصف وعي، وبعضها بلا وعي، أو يمكن أن نقول: إنه ما دامت هناك طبقات وطوائف اجتماعية، فإنه لا بدَّ أن يوجد تفاوت في الوعي الفني، وهذا ما نجده في بلادنا، بل هو ما نجده أيضًا في جميع الأقطار الأوروبية والأمريكية.
وهذه المقطوعة التي نقلتُها في أول هذا المقال إنما ألَّفها ولحَّنها ويغنِّيها فنانون، جميعهم على غير وعي بالتجديد في الشعب المصري، لا تختلف مما كنا نؤلف ونلحن ونغني قبل خمسين سنة، وهي عندي برهان على أنه لا يزال في شعبنا طبقات أو طوائف لم تتغير عن موقفها من الحياة ونظرتها للمجتمع والأخلاق منذ خمسين سنة.
إن جان كوكتو، الأديب الفرنسي العظيم، يقول: إن الفنَّ من الدِّين، والمتأمل لهذه الكلمات العذبة لا يتمالك الإحساس بالاشمئزاز من هذه المقطوعة التي أشرتُ إليها، ولكن كوكتو عندما قال كلماته هذه إنما كان يعبر عن إحساس اجتماعي لطائفة متعلمة مثقفة في فرنسا أو في أوروبا، هي بالطبع غير هذه الطوائف المجرمة التي تؤيد الحكومة الفرنسية في توحشها في الجزائر وقتلها للنساء والأطفال والرجال من أبناء الجزائريين الذين لا يطلبون غير استقلال بلادهم؛ ذلك لأنه إذا كان الفن من الدِّين، كما يقول كوكتو، فإنَّ الإنسانية أيضًا من الدِّين، بل هي أولى.
ومن أحسن الكلمات التي عثرتُ عليها في التوراة قوله: إن داود النبي كان يرقص للرب. ومن أحسن ما يُرى في كنائس أوروبا تلك الموسيقى الإلهية التي تنبع من الأرغن وفق الألحان الكنسية: موسيقى دينية.
«الفنُّ من الدِّين» كلمات عذبة تكاد تكون قدسية، أحب لو أن كلَّ فنان في مصر تذكرها وعمل بها، وأزيد عليها أن هدف الفنون جميعها حتى الموسيقى هو الأخلاق، فإذا عمل الفنان بإحساس الدِّين فإنه يهدف، من فنه، ومن حيث لا يدري، إلى الأخلاق، فلا يؤلف مثل هذه المقطوعة التي أشرنا إليها، ولن يلحنها ولن يغنيها؛ لأن إحساسها ليس دينيًّا وهدفها ليس أخلاقيًّا.
ولهذا السبب وحده لا يمكن أديبًا أن يقول: إنه يسيغ الأشعار التي ألفها أبو نواس؛ إذ إننا نسأله عندئذٍ: ما هو هدفها الأخلاقي؟
وهل كان إحساس مؤلفها دينيًّا حين نظمها؟
ونعود إلى شبابنا الثلاثة الذين ألَّفوا هذه المقطوعة التافهة التي نقلتُها في أول هذا المقال.
إنهم في إحساسهم الفني يمثلون طائفة من الشعب لم تتجدد ولم تتطور منذ خمسين سنة، وهذه الطائفة نفسها هي التي تحب رقص البطن، فهل نقدم لها ما تطلب؟
الجواب: لا، ولكننا يجب ألا نبتعد عنها كثيرًا بحيث لا تنفر مما نؤلف لها، فلا نجاريها في الميوعة والانهيار، ولكن لا نرتفع بها كثيرًا إلى ما ينأى عن إحساسها، أي إننا نحتاج معها إلى التسوية والمصالحة.
ولكنها تحتاج قبل هذا وبعد هذا إلى أن يتغير المجتمع في نظرته للحياة حتى تتغير عواطفه، وعندئذٍ تتغير موسيقاه وأغانيه وقصصه.