الفنُّ الجميل لرَجل العِلم
إني أرثي للعقلاء الناجحين.
كنت إلى سن الثلاثين أو ما يزيد عليها قليلًا أجد في قراءة أشعار ملتون وجراي وبيرون ووردزورث وكوليردج وشيلي لذة عظمى، بل إني حتى حين كنت تلميذًا بالمدرسة كنت أجد طَربًا عميقًا في شكسبير، وخاصة في مسرحياته التاريخية … وكنت أجد هذا الطرب كثيرًا في الرسوم الفنية وأكثر في الموسيقى، ولكني الآن ومنذ سنتين لا أطيق قراءة سطر من الشعر، وقد حاولت أن أقرا شكسبير فوجدته من المساخة بحيث بعث في نفسي غثيانًا، وكذلك لم أعد أسيغ الصور الفنية أو الموسيقى، ولا يزال عندي بعض الإحساس للمناظر الموفقة، ولكنها لا تحدث لي تلك اللذة الأنيقة التي كنت أحسها قبلًا … ويبدو لي كأن عقلي قد استحال إلى آلة لطحن الحقائق واستخراج القوانين العامة منها … ولو أني كنت قادرًا على أن أعيش حياتي مرة أخرى لعنيت بأن ألتزم قاعدة هي أن أقرأ بعض الأشعار أو أستمع إلى الموسيقى مرة كل أسبوع على الأقل؛ إذ إن المرجح أن أجزاء دماغي التي خمدت بالإهمال كان يمكن أن تبقى على نشاطها بالاستعمال، أجل، إن فقداني اللذة من هذه الفنون هو فقدان للسعادة، بل قد يكون في هذا الفقدان ضرر للتفكير، والمرجح أن هناك منه ضررًا للأخلاق؛ لأن الناحية العاطفية في طبيعتنا تضعف بهذا الإهمال.
وقد تأملت هذه الكلمات التي كتبها داروين يرثي بها لنفسه حين وجد بعد أن تقدم في السن أنه لم تَعُدْ له قدرة على تذوق الفنون، لا شعر ولا موسيقى ولا غناء ولا رسم ولا تمثال، وعللَّ ذلك بأن انغماسه في جمع الحقائق وترتيبها واستخراج النظريات العلمية منها، هذه كلها قد عملت على تجميد عواطفه، ثم صرَّح بأنه بهذا التجميد للعواطف، فقدْ فقدَ شيئًا كبيرًا من السعادة، كما أنه أضرَّ بتفكيره وبأخلاقه.
فأما السعادة فكلنا يسلم بأن النقص في الإحساس الفني ينقص السعادة؛ لأننا عندئذٍ لا نحس الارتفاع النفسي ولا نفهم آية القرآن: رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي حين نقف ونتأمل جمال الشفق أو روعة القمر، هذه الآلة التي أعجب بها جوتيه أديب ألمانيا العظيم.
وأما الضرر بالتفكير فلأن الفنون تنزعها من الخاص إلى العام، ومن الزائل إلى الخالد، وعندئذٍ نتعود في البحث العلمي وفي أسلوب عيشتنا، تلك النظرة الاستيعابية التي نكتسبها من التأمل الفني.
ولكن أعظم الضرر الذي يقع بنا عندما نجهل الفنون أخلاقي، ذلك أن أخلاقنا لا تسمو إلى مستوى التأنق والجمال ومعاني الشرف والشهامة، والأخذ بالقيم النبيلة في سلوكنا وعاداتنا الاجتماعية، إلا إذا كنَّا على إحساس فني، لا نؤدي عملًا ولا نعامل إنسانًا ولا ننتج سلعة، بل لا نعيش إلا ولنا مأرب فني من كل ذلك، ننشد الجمال ونعالج القبح حتى يجمل.
ولذلك نستطيع أن نقول: إن الفضيلة فضيلة؛ لأنها جميلة، وإن الرذيلة رذيلة؛ لأنها قبيحة، بل إن هذا التعريف هو خير ما نمتحن به أخلاقنا، وأيضًا ما نزعمه فيها بحيث نرفض كل «فن» لا يعمل للحق والفضيلة؛ لأنه غير جميل.