التثقيف الذاتي للشبان
التثقيف على الدوام ذاتي، كما أن هضم الطعام ذاتي.
فأنا لا أستطيع أن أهضم لك طعامك؛ لأن هذا الهضم يتوقف على ذوقك في اختيار الطعام وعلى كفاءتك في هضمه، وكذلك الشأن في الثقافة؛ فإنك أنت الوحيد في اختيار ما تحب ونبذ ما تكره، وهذا بالطبع تابع لكفاءتك في الهضم والتمثيل.
ولكن كما نستمع إلى نصيحة الطبيب في الاختيار الحسن للطعام الصحي، كذلك يجب أن نسأل ونستمع ونستشير بشأن الثقافة السليمة، ويجب أن نذكر أن الإحساس الثقافي هو في النهاية إحساس اجتماعي، بل إن الفهم نفسه اجتماعي، ولو أنك قد قضي عليك بأن تحيا وحيدًا في جزيرة نائية ليس بها ناس لما عنيت بأن تقرأ كتابًا، ولما نما ذكاؤك وتدرج إلى الفهم الشامل والرغبة في البحث والتنقيب.
ولهذا السبب يجب أن نُعدَّ الجريدةَ اليومية الأساسَ الأول للثقافة؛ إذ هي تصل بيننا وبين المجتمع، مجتمع بلادنا ومجتمعات الأقطار الأخرى، أي إنها تصل بيننا وبين الإنسانية، وهذا الاتصال يجب ألا ينقطع؛ إذ إننا لا نستطيع الاستغناء عن جريدة الصباح إلا بمقدار استغنائنا عن الفطور، بل هي أخطر قيمة من الفطور، هي غذاء إنساني على الرغم مما يستقبح فيها أحيانًا من نزعات أو أخبار.
والثقافة ضرورية لكل شابٍّ لأنها تكسبه إحساس النمو كما تعين لحياته القصد، فإننا ننمو كل يوم بما نقرأ وندرس، كما أننا نؤلف من دراستنا أهدافًا قد تتغير من وقت لآخر، ولكنها تصوب عقولنا إلى ما هو أعلى منَّا، ترفعنا من همومنا الشخصية الصغيرة إلى اهتمامات بشرية عالمية، فنحسُّ عندئذٍ الإحساس الديني.
وقد يقال: إن المدارس والجامعات تعلمنا وتثقفنا، وهي كذلك بلا شك إلى حدٍّ ما، ولكن ليست هناك حكومة على وجه الأرض تسمح لمعلميها وأساتذتها بأن يعلموا التلاميذ أو الطلبة تلك المعارف التي تخالف أو تناقض الوضع السياسي والاجتماعي والاقتصادي لهذه الدولة؛ ولهذا السبب لن نجد الثقافة الحرة إلا في مؤلفات الأحرار الذين يؤلفون لغير المدارس والجامعات، وعليك أن تذكر أن أعظم المؤلفين الذين غيروا هذه الدنيا وارتقوا بالفكر البشري، مثل داروين وفولتير وروسو وتولستوي وبرناردشو ونيتشه وعشرات غيرهم، قد قاطعتهم الجامعات وعاقبت المدارسُ التلاميذَ الذين ضبطوا متلبسين بقراءة مؤلفاتهم.
فلا تقل — أيها الشاب — إنك تعلمت من المدرسة بما يكفيك، ولا تقل: إن ما حصلتَ عليه من ثقافة جامعية يغنيك عن الدرس بعد تخرجك.
بل أَزِيدُ على هذا: وهو أن ما نحصل عليه من المدارس صغير محدود، وما نحصل عليه من الجامعات إنما نتخصص فيه في فنٍّ أو علم، ولكن الثقافة عامة، تطالب المهندس بأن يعرف الفَلَك، كما تطالب الطبيب بأن يدرس الأدب والفلسفة، وتطالبنا جميعًا بأن نبقى يقظين طِيلة حياتنا بأن ندرس كل ما يتصل بخير الإنسانية، وخير الإنسانية هو الدِّين في صميمه ولبابه وأساسه.
ولذلك يجب أن نخص مكتبة البيت بمبلغ شهري ننفقه على شراء الكتب، ويجب أن نشتري الكتب ولا نستعيرها من أحد الأشخاص أو إحدى المكتبات؛ ذلك لأن ما نؤديه من ثمنٍ للكتاب يبعث فينا إحساس الواجب السيكولوجي بضرورة قراءته، ثم إن القراءة الناجحة تحوجنا إلى أن نقرأ بالقلم، نكتب على الهوامش ونعلق، ولا نستطيع ذلك في كتاب مستعار.
ابدأ الآن — أيها الشاب — في تخصيص جزء من دخلك الشهري لشراء الكتب، وجلِّدها أحسنَ تجليد، واشترِ الرفوف الجميلة لها، ولكن لا تسرف في ذلك لئلا يعود اهتمامك بالكتب اجتماعيًّا غير ثقافي، أي إنك تقتنيها للفخر والأبهة أمام الضيوف وليس للدرس والنضج.
ثم اذكر أن الكتب أصدقاؤك، فلا تقتنِ منها ما يغشك في هذه الصداقة، وليس هناك شك في أن هناك كتبًا سيئة، بل غاية في السوء، مثل دواوين ابن الرومي وأبي نواس، فإننا نخجل من ترك هذه الكتب لأبنائنا وبناتنا يقرءونها؛ ولذلك يجب أن نخجل من أن نقرأها نحن أيضًا، وإن كنتُ أعتقد أن الرجل الناضج الذي يحتاج إلى زيادة بصيرته بالتاريخ يحتاج إلى قراءتها، يقرأها للتاريخ وليس للفن.
امتحن نفسك وكتبك من وقتٍ لآخر، هل أنت ترتقي بقراءتها فتزداد فهمًا للدنيا وبصيرة للكون وزيادة في الإحساس الإنساني؟ وهل أنت أكثر نضجًا سيكولوجيًّا مما كنت قبل قراءتها؟
هذا الامتحان يجب أن يتكرر حتى لا تسترسل في سخافات وعقائد وخرافات يزعم غيرك أنها حقائق، مع أنها في صميمها تفاهات يأنف منها الذهن البشري السليم.
كُن رجلًا جادًّا وادرس الثقافة الجِديَّة، ولا تستمع إلى أقوال المغفلين من أنه ليست هناك علاقة بين الفنون والأخلاق، فإن غاية الفنون العظيمة هي الأخلاق العظيمة، ولا أنسى هنا أننا قد نختلف على معنى الأخلاق العظيمة، ولكن هذا موضوع آخر، ولكني أصارحك بأني ما رأيت رجلًا قط يحب أبا نواس وابن الرومي، وينشد أشعارهما في كل مجلس ومجال، إلا وهو متلبس برذائلهما، وهذا هو ما ننتظر؛ لأن الخيال الذي تبعثه أشعارهما في الفِسق يعود لأقل فرصة تسنح إجرامًا.
فارتفع برأسك ولا تغذه إلا بأشرف الأفكار وأنفعها.
وقد يكون من الحسن أن تدرس لغة أجنبية إذا شئت الإحاطة والاستيعاب والشمول للثقافة العامة، ولكن إذا وجدت هذا، في ظروفك القائمة، محالًا أو شاقًّا فلا تيأس، فإن الكتب العربية التي تخرجها في أيامنا، القاهرة وبيروت ودمشق، تحفل بالكثير مما ينفع ويرفع كل راغب في تثقيف نفسه.
وانشد في ثقافتك طِيلة حياتك دراسةَ الفلسفة، كما يجب أن تحتاط من الأوهام الفلسفية بدراسة علم مادي يجرُّك إلى الأرض ويربطك بالحقائق؛ إذا استهوتك الفلسفة إلى التحليق في أجواء الأوهام، وفصلتْ بينك وبين المجتمع والناس والمواد.
إن الفلسفة ليست شيئًا في الهواء أو الخواء، وإنما هي مجهود متواصل كي نحيا بها الحياة الإنسانية الفهمية الذكية، أجل، الحياة الفلسفية.