الأدب والحياة
لا أدب بدون حياة، وفناء الأدب دليل على فناء الحياة نفسها.
الكلمة قوام الأدب، ولولاها لم يكن شيء مما كان، فالله، سبحانه وتعالى، هو الأديب الأول، أنشأ بالكلمة هذا الكون، وهو رائعته العظمى، أما قال في كتابه العزيز: وَإِذَا قَضَىٰ أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ؟ وبماذا علم الله الإنسان، أحب مخلوقاته إليه، أليس بالقلم؟
وعندما شاء، جل جلاله، أن يبدع، أما قال: فليكن نور؟ فالكلمة إذن كانت أداةَ الله في تكوين بديع السماوات والأرض، ثم صارت سلاحَ من خلقَه على صورته ومثاله، وبها تُقاد الأمم والشعوب، وتساس الدنيا، والذي يُحسِن استعمالها هو الذي يخلق المثلَ العليا، ويجعل الأدب كُفئًا للحياة. والأديب، بتخيُّله، هو الذي يخفف آلام البشر، ويحبب إليهم الحياة؛ إذ يجلوها لهم عروسًا بأبهى وشي الأحلام، فخيال الأديب، وهو عنصر روحاني، يكشف للأبصار ما غمض واستتر من أسرار الكون. والمثل العليا التي وضعت يُقرِّرها الأدب الذي يستمدها من تطورات الحياة.
الأدب خلاصةُ عقول الأمم، فكما يقطر الزهر ليصير عطرًا باقيًا، ويُحبس في قارورة للدلالة على ما كان، كذلك يدلنا الأدب الخالد على مَن مروا في طريق الحياة منذ الأزل إلى الأبد.
الأدب الحق هو الذي يصور الحياة ماضيها وحاضرها، مستقبلها القريب والبعيد، ويضع مخطط الصرح الذي تراه مخيلة الأديب الموهوب.
إن التي نسميها نحن كلمة هي التي، إذا اتحدت مع أخواتها، تقلب نظمَ الدنيا رأسًا على عقب، وكما قال الجاحظ: وهل بيوت المال إلا درهم إلى درهم، نستطيع أن نقول نحن: وهل الروائع المثلى إلا كلمة إلى كلمة؟
والأديب لا يُحمَل على تأدية رسالة بعينها، فهو يؤدي رسالته بينا يفكر بأنها ليست هي، كما فعل المتنبي حين ادعى الإمامة، ثم رضي أخيرًا بضيعة أو ولاية ولم ينل ذلك. كانت الحياة تُزجي ركابَه في طريق الأدب الخالد وهو يحنُّ إلى سلطان تافه.
والجاحظ، أما اعتقد أن مجد عبقريته هو في الجاحظية، فمات في أدبه الجدلي وعاش في الواقع؟
وإذا فتشنا عن العنصر الأدبي في جميع ما سعد به الإنسان من تعاليم، رأينا أن سحر بيان الأدب من دعائمها الكبرى، وأن الله، تقدس اسمه، لم يُكلِّف بحَمْل رسالته في كل دور إلا أفصح خلقه، فالسيف والمدفع لا يؤديان رسالة.
ليس للرسالة إلا الأديب يحملها على أجنحة خياله، ويطير بالنفوس معها.
لا نعني بالأدباء أولئك الذين ينقُّون في مستنقعات التقليد، ويتقيَّئُون على الورق ما قالته النوابغ منذ آلاف السنين ومئاتها، بل نحن نعني أولئك الذين يدور العقل البشري في أفلاك وحيهم وإلهامهم.
فمخيلة الأديب في حلم دائم، والعلم يعبر تلك الأحلام ويحققها فيما بعد. مخيلة الأديب تحبل وتلد، ورجال العلم يلتقطون المولود ليكون لنا عدوًّا. يحلم الأديب الملهم بتجميل الحياة وإسعاد البشر، والجبابرة يُصيِّرون تلك الأحلام يقظة قاسية.
إن الأدب إكسير الحياة، بل هو غذاء نحن أحوج إليه من الخبز. تسأم النفوس دنيا العمل وضجيجها المزعج فتلجأ إلى دنيا الأدب وعوالمها، فتنفتح أمامها آفاق الأماني والأحلام، وتستيقظ على صوت الأديب الذي يهيب بها لتهب إلى الكفاح.
فالمتنبي، شاعر القومية العربية، أما ازدرى ملوك عصره جميعًا حين قال ولم يبال:
كل هذا يوضح لنا علاقة الأدب بالحياة، وأن الأديب في كل ما يكتب لا يصدر قلمه إلا عن نبع الحياة الحي، مهما كان موضوعه. أما الذين يتحدثون عن الأدب في هذه الأيام ويريدونه انضوائيًّا أو موجهًا، فإنهم لا يعرفون أن الأديب الحق لا يمشي في ركاب أحد، وأنه ليس طالبًا في مدرسة ليقترح عليه المعلم بحثًا يناقشه. للأديب كل الحق في أن يؤيد قضية إذا اندفع إليها عفوًا أو كان مؤمنًا بها، أما سابق التصور والتصميم، كما يقولون في لغة الشرع، فهذا يكون في الجرائم لا في الأدب.
الأديب هو تلك الشجرة التي يطعن جذعها فتدر عصارة يصنع منها السكر والشراب. إنه يتألم ليسعد إخوانه، فلنتركه يسمعنا تغريده ونواحه؛ فالطيور الفصيحة لا تقترح عليها الأغاريد. وليس في الأدب الرفيع أدب لا يتصل بالحياة، ولكنه يتنوع بتنوع الحياة، فما تراه أنت بعيدًا عن حياتك فقد يكون في صميم قلب حياة غيرك. إن الأديب لا يُدَلُّ على واجبه، فالحياة التي تضج فيه هي التي توجهه في طريقه، لا نحن.
أما الذين يريدون أن يوجهوا الأدباء فلهم أُوجِّه كلمة ملتون: لا تتهم الطبيعة؛ فإنها قامت بواجبها، وعليك أنت أن تقوم بواجبك.
وبناء على ذلك قمنا نحن ونقوم بواجبنا نحو الأدب والأدباء؛ أي نقدناهم نقدًا مخلصًا. وإنما الأعمال بالنيات.