القضية الفلسطينية
أكرم زعيتر كاتب متمكن من لغته، وأسلوبه أنصع من الفضة الخالية من الزغل، وأما عروبته فأنقى. عاش في صميم القضية الفلسطينية الحاضرة، ورأى بعينيه مشاهد المأساة الفاجعة، وها هو يؤلف لنا كتابًا يدخل من بابها حتى يصل إلى محرابها، وها نحن نصلي وراءه خاشعين متأملين مترحمين على شهدائنا الذين ناضلوا وكافحوا في سبيلها، وأولئك هم المفلحون. كلنا في الهم سواء، ومن ينام نومًا هادئًا وهو يعلم أن في بيته «وكر» أفعى. لقد عرف السيد المسيح أذى قومه هؤلاء فأخذ السوط وصاح بهم: أيها الحيات أولاد الأفاعي، من علمكم الهرب من دينونة جهنم.
ومع ذلك لم ينج السيد من كيدهم. إن كيدهم لعظيم! ربحوا المعركة مؤقتًا، أما البقاء، والخلود فكانا لتعاليم السيد، فملأت أتباعه المسكونة، وذابت اليهودية في الأوقيانوس المحيط، ولكن الخميرة التي في التوراة بقيت دهورًا تخمر عجين الصهيونية، واليقين يفعل المستحيل.
في ربيع عام ١٩٢٧ زرت فلسطين أول مرة، وعدت من القدس إلى حيفا راكبًا القطار، دخلت العاجلة فإذا أنا، وجهًا لوجه، أمام حاخم تسعيني منكب على توراته لا يرفع وجهه عنها، يغضي لا حياء، كما قال الفرزدق في زين العابدين، ولكن ليغرق في بحور أسفار التوراة ولا يفوته شيء من تعاليم أنبياء إسرائيل. وكان بين آونة وأخرى يمشط بمدراه لحيته البحترية البيضاء، ويرسل الزفرات ويتنهد كأنه يقول: متى هذا الوعد يا رب الجنود؟ من نهر النيل إلى النهر الكبير — الفرات — هكذا حددت لنا مملكتنا العتيدة، فأين نحن الآن؟ فلولا وعد بلفور لما كانت لنا هذه الشقة من بيتنا العتيق.
وظل يقرأ ويناجي إله إسرائيل حتى افترقنا في اللد لنركب قطارًا آخر.
وتذكرت في تلك اللحظة قضية الصهيونية التي تنبهنا لها قبل الحرب الكونية الكبرى، وسميناها الخطر الأصفر، نسبة إلى الذي كان يشتري أرض الميعاد ليهود أوروبا، وخطر على بالي في تلك الساعة صاحب جريدة الكرمل، نجيب نصار، فقررت أن أزوره، ولما وصلت حيفا كان ذلك الواجب أول ما قمت به، وتذاكرنا القضية التي كنا نناضل في سبيلها فقال لي المرحوم نجيب: نحن عملنا ما علينا، قرعنا ناقوس الخطر، وأنذرنا قومنا، ولعل الله يتحنن علينا ويعطينا ذرة من الإيمان لنقابل المستقبل القاتم. أعطاك الله العافية.
فقلت: وألف عافية تجيك. لا تنس أن كرهنا «لشعب الله الخاص» يجري في عروقنا، ونحن نلعنهم في كنائسنا دائمًا، ونسبُّهم في صلواتنا وقُدَّاساتنا، فأنا ماروني كما يدلك اسمي، لبناني من عين كفاع.
فقال نجيب: وأنا من عين عنوب.
فقلت: حيا الله بني غسان؛ فقد كانوا للعروبة، ولأجلها حارب الغسانيُّ الرومانَ المستعمرين، نجاها الله من هؤلاء.
قد يقول القارئ: ولماذا كل هذه القصص؟ وأنا أجيبه أن على كل قارئ عربي أن ينكب على كتاب أكرم زعيتر، وأن يقرأه لأولاده حتى الصغار منهم، كما كان ذلك الحاخام يطالع توراته، فعلى دولنا العربية في كل قطر أن تجعله في رأس لائحة كتب مدارسها. سوف ترى الناشئة في كتاب أكرم زعيتر تاريخ القضية الفلسطينية بكامل خطوطها، ويقدر الناس معي جهود هذا الرجل المدقق، ويفهم عنه ما يريد أن يقول، ويأخذ العلاج الذي وصفه لنا هذا النطاسيُّ المجرب في آخر كتابه. لا يجب أن ننسى أن لنا في فلسطين إخوانًا كرامًا أُباة صاروا تحت رحمة اليهود، فيجب علينا أن نبادر إلى إنقاذهم، صاروا قلة هناك، ولكن المرء كثير بأخيه، فلا ننس إخواننا.
عندما أخذت ألمانيا الإلزاس واللورين لم ينسهما الفرنسيون، وقد مشت بناتهم ثلاثةً ثلاثةً لابساتٍ الألوان الثلاثة الأحمر والأبيض والأزرق ممثلاتٍ العلم المثلث الألوان. مثل هذا فلنفعل لكيلا ننسى البلد المقدس.
فيا أخي أكرم، لما سأل يهودي السيد المسيح: ماذا أعمل يا سيد لأرث ملكوت السماوات؟
أجابه السيد: احفظ وصايا الله.
فأجاب اليهودي: هذي قد حفظتها من صباي.
فقال السيد: إذن واحدة تعوزك؛ اذهب وبِعْ مالك وتصدَّق به على المساكين. فاغتمَّ الرجل لأنه كان غنيًّا جدًّا.
ونحن يا أخي، ينقصنا العمل والتضحية بعد حفظ الوصايا … نحن أنانيون، نحن متفرقون، كلنا رءوس مثل ورق البصل، قلوبنا عند كنوزنا لا عند إخواننا … وقد قال السيد: حيثما تكن كنوزكم فهناك تكون قلوبكم.
وأخيرًا، جزاك الله خيرًا عن هذه الأمة المختلفة المآرب والمشارب تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّىٰ صدق الله العظيم.