جبروت العقل
هذا كتاب مترجم، وما ترجمه الدكتور فؤاد صروف إلا ليكون دليلًا إلى حصن الفكر والمعرفة، وما أحوج الأغنياء بعواطفهم مثلنا إلى كتاب يطوف بهم في دنيا الفكر، التي هي أوسع من أن تحد؛ فالفكر المنبثق من العقل ليس له حدود، والكون كله ليس أوسع من مداه، فهو أوسع من الدهر الذي حدده ضرير المعرة البصير بقوله:
أما العقل، وهو موضوع هذا الكتاب القيم، فقد ألَّهه المعري أيضًا إذا قال:
قد يقول أصحابنا الذين لا يقدرون إلا سفاسفهم وثرثراتهم، أليس هذا الكتاب مترجمًا؟ وأي نقد للترجمة؟ فلهؤلاء أقول: إن «الإشعاع» الذي تعتدون به لا يكون لكم منه بصيص نور، لولا الترجمة، والمعرفة التي تأتون على ذكرها بمناسبة وبغير مناسبة لم يكن لكم منها شيء لولا الترجمة. وترجمة كتاب نفيس هي حجر جديد يضاف إلى صرح معرفة الأمة، فنهضتنا الأخيرة قامت على الترجمة، ولولاها لما كان لنا شيء نعتد به في هذا المجال، فأنا أحمد الله على أن هذا الكتاب قد فتح أمامي نافذة أطل منها على رجل العلم الذي أطلع شمس الفكر الحر في سماء أقطارنا العربية. أليس فؤاد صروف هو الذي أتم ويتم في كل مناسبة رسالة عمه يعقوب صروف صاحب المقتطف؟
إننا لن ننصف بعد يعقوب صروف، ولو فعلنا لأقمنا له التماثيل في كل عاصمة ومدينة، فهو أبو يقظتنا الحاضرة، وقد فتحت مجلته العيون المغمضة، وجعلتنا نأبه للعلم يوم كان يعد ذلك العلم كفرًا وزندقة، ومع ذلك مضى علَّامتنا في طريقه ولم يبال بما كان يُتَّهم به. كان همُّه أن تمشي أمته بل الشرق كله على ضوء مصباح العلم، وظل ينشره بيننا حتى لفظ النفس الأخير وسلم المصباح لربيبه هذا؛ مترجم كتاب جبروت العقل.
وإذا لم يكن يعقوب أبًا لفؤاد فهو مربيه، وحسبك أن تعلم أنه قام بأعباء رسالة عمه؛ أي تحرير المقتطف زهاء سبعة عشر عامًا؛ فهو إذن حواريه ورسوله بيننا اليوم. قلت: حواريه ورسوله، وهذا حق؛ فما كان يعقوب صروف إلا رسول العلم الحديث إلى كل بيت ناطق بالضاد، وإذا أحيا زيدان التاريخ الإسلامي بأسلوبه الهين، فيعقوب صروف جعل من مقتطفه دائرة معارف حقًّا تنشر أول مستحدثات العلم الحديث، فيتابع من يقرؤها سيرورة العلم خطوة خطوة.
قال ابن العميد: كتب الجاحظ: تعلم العقل أولًا، والأدب ثانيًا. وبحق نقول: إن المقتطف الذي كتب منه صروف الكبير أكثر من ٧٠ مجلدًا يعلم العلم أولًا، وكل شيء ثانيًا.
أذكر أن الأستاذ فؤاد قال مرة عن عمه: إن يعقوب صروف من نهضتنا كحنين بن إسحاق من النهضة العباسية، وهذا أقل ما يقال في ذلك الرجل، فلولا مخلفاته التي نستتر بها لكنا عراة، ولكننا نسيناه، والإنسان سمي إنسانًا لأنه ناسٍ.
قلنا: إن فؤاد صروف مطبوع على العلم، وقد نشأ عليه شابًّا في ظل ذاك الرجل، فحسبك أن تعرف حتى تقرني على ما أقول أن له كتبًا مؤلفة ومترجمة تضرب كلها على الوتر العلمي، فهو ممن يعتقدون أن الحضارة لا تبنى إلا على البحث العلمي، كما قامت نهضة ألمانيا؛ فحين يكتب مقالة أو بحثًا أو محاضرة يعرج ولو لمامًا على العلم. ومن كتبه العلمية: رجال العلم ومكتشفاتهم، وطبقات الأرض، وفتوحات العلم الحديث، والفتح مستمر، ومذبح المريخ، والنار الخالدة، وآفاق لا تحد، وعلى الطريق، واليوم: جبروت العقل.
إن هذا الدماغ المنتج لا يتخلف أبدًا عن ركب العلم، ترى له في كل معركة علمية غبارًا، فكتبه التي ذكرت تُنبئنا عن شخصية طبعت، منذ وجدت، على تعشُّق العلم، فهو لا يزال يشعل كل يوم شمعة في هيكل العلم والأدب، ولا ننس فضل الصروفين على اللغة، فكم وضعا من لفظة حديثة دارت على ألسنة الأقلام.
أما كتاب جبروت العقل، فبحث لتاريخ العقل ومدى ما بلغ وما يمكن أن يصل إليه. تقرؤه وكأنك تقرأ كتابًا أدبيًّا فلا تمل ولا تضجر. يحدثك عن آراء القدماء والمعاصرين، ويبحث شئونًا تعنيك كإنسان صاحب عقل وفكر تريد أن تفهم معنى الحضارة الحديثة التي تتولى التربية الحديثة وتوجيهها، ثم يسأل عن المدى الذي بلغه العقل في فهم فكرة الله.
وللأديب في هذا الكتاب مرعًى يجده من يريد التعمق؛ كما أنه يبحث الشجاعة والطموح حين يروي لنا أن إسحاق نيوتن كان ابن فلاح في لنكشير، ولم يكن ولدًا نجيبًا في صباه، بل كان طالبًا وسطًا في جامعة كمبريدج، فلم تكد تنقضي بضع سنوات حتى انقدحت فيه الشرارة، كما أن سقراط قد كان بنَّاء … إلخ.
ثم يحدثني عن الآلة الحاسبة التي تغني عن المئات من الرياضيين، أو الآلة التي تتذكر ولا يزيد حجمها عن حجم جهاز راديو متوسط، ففي قدرتها أن تتصفح كل كلمة من مكتبة مؤلفة من مائة مجلد، وأن تختزنها وتعيدها متى طلب ذلك منها.
وأعجب هذه الآلات آلة تستطيع أن تخزن ملايين لا تحصى من الحقائق خلال سبعين سنة، وهذه الآلة هي المخ البشري، ولكن لا تنسينَّ أن نشوءه قد استغرق مئات الألوف من السنين.
ومؤلف كتاب جبروت العقل المستر جيلبرت هايت يعذر العالم على سيره البطيء؛ لأن الناس لا تشجعه، بل تعجب بالمشعوذين والدجالين وتجزيهم أحسن جزاء.
ويرى هذا الأستاذ أنه لا يستبعد أن ينتهي عصرنا المتصف بالمغامرة والثورة إلى عهد يغلب عليه الاتباع الجامد، وهذا ما يهدد العقل والفكر بالجمود.
ثم يعتقد أن النظم المدرسية والمناهج تعلم الاتِّباع لا الإبداع، وهذا ما ينذر بركود الفكر، ويقول في التعليم: فالمعلمون يقولون لوالدي التلاميذ: إن اللغة أداة، وبدلًا من أن يأخذوهم بأيديهم ويبينوا لهم كيف يستطيعون أن يقرءوا، تراهم يعلمونهم ما يسمونه «فنون اللغة»، وهي بالقياس إلى الأدب كبصمات الأصابع الملونة بالقياس إلى روائع فن التصوير، «أما مستوى التعليم فيهبط رويدًا رويدًا عامًا بعد عام، وسببه أننا في استعداد لتبديد قوى العقل في الشاب، وإهدار تراث الماضي الذي لا يُقوَّم بمال.»
ولكي يدلنا على تفكير الإنسان الدائم في الصحة والمرض، والنوم واليقظة، يقول: إن الدماغ يعمل كما يعمل القلب، ينبض نبضًا لا ينقطع في أنسجته التي تزن ١٤٠٠ غرام، تسجل وتخزن بلايين من الذكريات والعادات والغرائز؛ صور وألوان وأصوات، وحسابات تفوق التصوير في دقتها، صوت همسة سمعت منذ ثلاثين سنة.
كنت أسمع من شيوخ قريتنا كلمة تدور على لسانهم؛ وهي: الفكر لا ينام، وإذا بي أراها في هذا الكتاب الصغير، أجل إنه صغير، ولكنه كبير بما فيه من أسرار نجهلها ونعرفها، ولكننا لا نقف عندها؛ فهي مغطاة بقشرة بصلة، كما يقول العوام. وكم في أقوالهم من فلسفة وعلم وحكمة!
وأخيرًا، إننا نشكر الأستاذ صروف ونسأله ألا يقطع عنا سيوله الذهبية فيعلمنا العلم بأسلوب الأدب العالي، ولا بدع فهو متمكن من اللغة التي يترجم عنها تمكنه من لغته التي ينقل إليها. ومتى كانت هذه حال المؤلف فسعدًا للكتاب الذي يخرج إلى ميدان خدمة العقل والفكر والمعرفة. إن فؤاد صروف يريد أن يبني الأمة على أساس علمي، وهو من يقدس العقل ويُؤلِّه الفكر أبا المعرفة قائدة الحضارة.
وأننا نشكر لمؤسسة فرانكلين نشرها هذا الكتاب بالاشتراك مع دار الثقافة ببيروت، فخرج في هذه الحلة الأنيقة التي تغري بالمطالعة كما تغري الحسناء بهندامها.