أباطيل
تحت يدي الآن ديوانا شعرٍ لطالبينِ جامعيينِ؛ أحدهما: عراقي، وعنوان ديوانه «أباطيل»، والثاني: لبناني، وعنوانه «في دروب المغيب». الديوانان من قطع واحد، وعد صفحاتهما واحد، ولا فرق بينهما إلا أن الجلد العراقي أحمر، والجلد اللبناني أزرق. أما الفكرة في الديوانين فهي واحدة: ثورة على الله المسكين، وحب عارم، وشهوات متقدة تذكرنا بروح شاعرنا: إلياس أبو شبكة.
إن فريقًا من شباب اليوم لم يعد يعجبه مَن على العرش استوى، يريدون أن يقطعوا السرة، بل الخيط الذي يربط الإنسان بضابط الكل الذي يَرى ولا يُرى، ولكن لا خوف على من وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ، فإليه يرجعون إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا * وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا إنه يهز قضيب العز لبنيه النبهاء ليتعظوا، ومثل إناء فخار يحطم القلاع والحصون فترتجف أعصاب المتمردين.
منذ ثلث قرن، في سنة ١٩٢٣، ظهر في ريودي جانيرو ديوان لشاعر مغمور، شاعر بوهيمي حقًّا، هو أديب الخوري الشرتوني. أعلن هذا الشاعر العصيان على التقاليد الموروثة في تائية كبرى فقد منها ٦٠٠ بيت، كما زعم. وهذه هي أبياتها التي تلامس موضوعنا:
•••
ذكرت هذا لأدل شبابنا على أن هذا التمرد مسبوق إليه، وأن هذا الكلام لا يصير شعرًا إذا اعتمد على الفكرة فقط، كما أن رصف الكلام لا يخلق الشعر الصافي إذا كان طلاسم خليًّا من المعنى، كما قال فيه شاكر الخوري:
قد يهز بعضنا أكتافهم ويمطون شفاههم قائلين: هل تستحق دواوين هؤلاء الشعراء الناشئين هذا الاهتمام وهم من لا يعرفهم أحد غير جيرانهم، فأين أنت من الجبابرة؟
وأنا أجيب هؤلاء: إن الجبابرة قد أخذوا نصيبهم، ولكننا سوف لا نلقي حبلهم على غاربهم بالمرة، إننا نطوِّل الحبل ولا نفلته، سوف نفعل معهم كما كان يفعل اليونانيون في حفلة تأليه البطل. كان يتبعه رجل يسر إليه بهذه الكلمة كلما اجتاز مسافة قصيرة: تذكر أنك إنسان.
أجل، مثل اليونانيين سوف نفعل، فننكز العمالقة من حين إلى حين ليشدوا براغي ركبهم ويُزيِّتوها. أما الشباب فمن لهم غيري؟ ترى أما كان ناشئًا ذاك الذي نسميه اليوم جبارًا، أو عملاقًا، أو الشاعر الكبير والأعظم؟
أنا لست ناقدًا فقط، ولكني ناقد ومُوجِّه على قدر معرفتي. وأحرى الناس بالتوجيه في الأدب هم هؤلاء الشباب الذين يرجى منهم خير كثير. تصوروا أننا بلا جيل أدبي طالع، أفلا نكون كأسرة مقطوع نسلها؟
سوف أتصيد الكركي والعندليب، والضبع والغزال، والهزيل والسمين، والجميز والقصب. أما البقاء فما يكفله إلا العمل المتواصل. يبقى الرجل سنين لينبش نبعًا، فينفق من ماله وحاله بلا حساب، فإذا أردتم أن تكونوا ورثة الخالدين فافعلوا كذلك. إن العبقرية لا تظهر فورًا إلا نادرًا جدًّا.
في العراق اليوم تياران: قصصي وشعري، والتياران يناطحان شاطئًا واحدًا؛ شاطئ التجديد في الأساس والشكل، كما يُعبِّر المحامون. هناك تيار قصصي يريد أن يكون عراقي اللون، عالمي الفكرة والطراز، وتيار شعري طغى عليه اللون الإليوتي حتى استحال ثرثرة بالمعنى اللغوي لا العراقي، فإذا قرأنا قصيدة «الغريب» في ديوان «أباطيل» للشاعر الطالع يوسف نمر ذياب، وجدناها لا شرقية «بياتية» ولا أميركية إليوتية، فلو نظم الشاعر العراقي «موالًا بغداديًّا» فيه رائحة دجلة وطعم النخيل لكان خيرًا وأبقى من هذا الشعر الحائر.
قد تقول حين تنتهي من قراءة قصيدة «الغريب»: ليس هذا شعرًا، ولكني أقول لك: بلى، إنه شعر من الطراز الإليوتي، وأصحابنا عدوه فتحًا جديدًا في شعرنا العربي، ولكنه في نظري وباء نحتاج في مكافحته إلى بنسلين جديد يقضي على ميكروبات هذه الحمى المالطية. اقرأ ما يأتي إذا شئت ثم أصدر حكمك:
كذا والله إلى آخر هذا الموال الفرنجي. ذكرتني كلمة غريب بنكتة جرت في إحدى قرى جيرتنا؛ كانت كلمة «غريب» محط كلام لرجل من تلك القرية، ولم يكن لهذا الرجل ولد ذكر، فرزقه الله واحدًا كان عُجْزة أبيه، فسماه مكماهون — لأن اسم ماريشال فرنسا كان لامعًا في آخر القرن التاسع عشر — غير إن الوليد مات، فقعد أبوه يبكي وينتحب، وسمع جاره النواح فجاء على الصوت، ودخل عليه ليعرف ما به، فقال له الرجل المفجوع بوحيده: ما عرفت مكماهون مات؟
فقال الرجل: أنا قدَّرت ذلك أول بأول.
فقال الأب: غريب! وكيف عرفت؟
فأجابه: لأن أرضنا الوعرة لا يعيش فيها مكماهونات.
وأدبنا العربي، يا سيد ذياب، لا يعيش فيه الشعر الإليوتي. فإذا كان البياتي، وهو الشاعر القارح، قلما يوفق إلى تقليده، فكيف بك أنت الطري العود في الشعر؟
إن خطيئة الإليوتيين عندكم، وخطيئتك أنت في رقبة الشاعر عبد الوهاب البياتي.
تأمل قصيدتك «انتفاضة»، فهي أشبه بأكل الترمس والحمص الأخضر نظرًا لما فيها من تقليد إليوتي زيف. لا أذكر من إليوتياتك إلا ما ذكرت، وإخالني قد صفيت الحساب الإليوتي البياتي تصفية نهائية، أما الشعر الذي من نوع شعرنا في ديوانك، فقصيدة «صراع» جيدة، وفي الديوان لها أخوات، وأما قضية «الله» فسنضم ما بقي من رصيد حسابها إلى حساب ديوان فؤاد رفقة «في دروب المغيب».
وأخيرًا أقول: إن ما يشكو منه شعرك البلدي الموزون لهو اختلاس الياء غالبًا ليستقيم الوزن، وهاك مثلين على ذلك في بيت واحد:
وكذلك في قولك: «تستجدي» قلبك ألحاني وأشجاني، وقولك: أضويت وجدًا ولم «تصطدني» حسناء. إنك ستكون شاعرًا، يا يوسف، حين تنضج؛ لأنك كما يبدو موهوب. أما الآن فشعرك ما زال فجًّا، وأنت وزميلك رفقة قد استعجلتما طبع ديوانيكما، فعلى كل ناشئ أن يتأنَّى لينال ما يتمنى.