صراخ في ليل طويل
«صراخ في ليل طويل» عنوان رواية ناجحة ألفها الأديب جبرا إبراهيم جبرا العارف الدرب إلى هذا الفن. أجرى حوادثها في مدينة لم يسمها، ولكنه نثر أوصافها التي تدلك عليها دلالة غير واضحة المعالم، فتمشي معه طائعًا مختارًا، وإن كنت لا تعرف إلا أنك في مدينة يجوز أن تكون بغداد، ويجوز أن تكون حلب، والله أعلم.
لها بطل رئيسي هو أمين سماع يروي حكاية سنتين من حياته البوهيمية، أو قل إنه يعطيك صورة الشاب التائه الذي يريد أن يؤدي رسالة، ويصبو ككل إنسان إلى أن يكون شيئًا مذكورًا. أما الطريق التي سلكها ليصل إلى ما يبغي فهي رسالة القلم، وقلمه كل سلاحه في معركة المعاش؛ فهو صحفي يقضي معظم نهاره في كتابة المقالات التي تتطلبها الجريدة. وفي الصباح، قبل أن يذهب إلى عمله، يشتغل بكتابة رواية، وما غايته منها إلا أن يُعبِّر عما يريد قوله، ولذلك اشتق من نفسه أشخاصًا كثيرين كما يشتق العالم بالصرف صيغًا مختلفة من الفعل، فمثل كل منهم ناحية من نواحي النفس الملأى بالمتناقضات، وقد بنى هذه المقصورة على حبه لسمية ابنة سليمان شنوب، صاحب المتجر الذي أراد أن يُعيِّن أمينًا كاتبًا عنده بعد الامتحان والانتظار. وجرب أمين عمله في فتح صناديق معجون الأسنان، وما صدق أن انتهى ذلك النهار حتى راح ولم يعد. ويشاء القدر، بعد حين، أن يلتقي أمين بابنة التاجر شنوب في برية، ويشق الحب طريقه إلى قلبيهما، ثم يكون الزواج بعد دوش سخن صبه والد البنت وأمها على رأس أمين.
وكما كان الزواج صاعقة، كذلك كانت الخيانة زلزلة، فقد تركته بعد سنتين، وانشقت الأرض وبلعتها، تركته معلقًا بحبال الهواء، لم تدع له إلا رسالة من ثلاثة أسطر ترجوه فيها ألا يقلق عليها؛ لأنها غادرته من تلقاء نفسها، وقضى أمين سنتين تائهًا أسير ذكراها التي ترافقه، كما كان يرافق طيف وحيد ابن الرومي، ويسد بوجهه كل فج.
فيتوه أمين خلال السنتين، وأهم ما يشغله في هذه الفترة عنايت هانم وأختها ركزان. كلفته عنايت هانم أن يكتب تاريخ أسرتها آل ياسر، فغاص معها في تلك الوثائق الدهرية بينما كانت ركزان، أخت عنايت، منصرفة إلى إشباع شهواتها.
وذات ليلة، يحلم أمين، وإذا بالحلم يستحيل حقيقة، ويرى سمية معه في الفراش، فيستحيل ذاك الحب العارم إلى بغض صاخب، فيطردها من بيته ويفر هو منه، ويأبى أن يتزوج من ركزان هانم التي عرضت بضاعتها عليه.
إن رواية جبرا، على صغرها، حافلة بأشياء يصعب عدها، فكأنها مخازن ألف صنف وصنف. نحن لم نشر إلا إلى جذع الرواية، أما فروعها فهي لا تحصى. إن بطل الأستاذ جبرا قال لنا إنه قسم نفسه إلى أشخاص عديدين، ومن غرائب التوفيق الفني أن تجيء جميع هذه الأشخاص زاخرة بالحياة، ولو لم يطلعنا على سر فنه لخلناهم شخوصًا حقيقيين، وأن الرواية واقعية. وهذا طلسم الفن الروائي وسحره المؤكد.
يعالج بطل الرواية شئونًا كثيرة، ولكن المرأة هي موضوعه الرئيسي، ولعله من عبَّاد الجسد، وهو يرى فيه العامل الدائم في الوجود الإنساني، ورأيه في المرأة «أن جسدها هو عندها الكل في الكل، فهي تحممه، وتعطره، وتطليه بالمساحيق، وتبرز أجزاءه المختلفة، وتحمله معها أينما ذهبت كحمل ثمين لكي تنزله في النهاية في فراش أحد الرجال، وهي نهمة لا تشبع حتى بعد أن يمسي جسدها غير أهل للفراش.»
ونفهم من النقاش الحامي بين شخوصه أن السخط مصبوب على المرأة لأنها تنصرف إلى مداعبة الأقنعة الجنسية، أما هو، وعبثًا نحاول التفريق بينه وبين شخوصه فكلهم هو، فيرى أن الطبقات السفلى من الشعب تنتج المبدعين، وأما ذوو الفراغ المتمتعون بثمرات التقدم فهم مرتع السآمة والضجر.
ثم يهزأ البطل أمين بأبيه لأن الروح كانت عند ذلك الأب شيئًا حقيقيًّا لا مجرد كلمة غامضة، فيؤمن بعالم آخر ونعيم سماوي لا يدركه عقل البشر.
وإذا أردت أن أجيء على كل ما في هذه الرواية من أفكار ومبادئ «تقدمية ووجودية» اقتضى أن أكتب كتابًا ربما كان أضخم من هذه القصة، لأن جبرًا يحسن انتقاء التعبير الوجيز اللازم لإخراج روايته إخراجًا محكمًا، وهو يحبك أشخاصه حبكًا متلازًّا، ولا يُقوِّل الأشخاص أكثر مما يحب أن يقولوا. وهناك قدرة فائقة على مزج عدة شخصيات وحوادث تظل خيوطها في يد جبرا أنشوطة لا «تتشركل» أبدًا، ويصف لك كل شيء من تقلبات النفس البشرية والصراع الفكري، فهو في هذه الرواية واقعي خيالي لا يهمل شيئًا من زينة مسرح روايته، وقد خلق من حوادث تافهة رواية هي في طليعة أدبنا الروائي. قد لا أكون رأيت لها أختًا في هذه الفترة من نهضتنا ولا قبلها. الحياة نشيطة في هذه الرواية، والعبارة تؤدي الفكرة تأدية تامة غير منقوصة، فالكاتب يخضع مواده لفنه، ولا يخلق إلا ما يحتاج إليه عالم روايته.
قد يقول واحد: «وما حاجتنا إلى قوله: وعندما أمسى مصباح الشارع خلفي تفحصت ظلي الطويل الذي ضخم تأرجح ذراعي، وفضح شيئًا من البخترة في مشيتي، إلا أنني أعجبت بشكل رأسي ظلًّا وهو ينزلق أمامي، ولكن سرعان ما استطال الظل وفقد ما فيه من تناسب، ولم يرق لي أن أنظر إليه.» ثم قوله في موضع آخر: «وكان على الأرض صحون مهشمة، وقطة سوداء صغيرة تنظر في حيرة إلى الرجل الذي يحزم الثياب.»
ونحن نقول: هكذا يستلهم الروائي كل شيء، والسر العظيم هو في السبك، وتسيير المرئيات، والحرص على التناسب بينها، وتوجيه القصة نحو الهدف كما يسير الطوربيد إلى دارعة لينسفها نسفًا.
فشخوص جبرا يعبر كل واحد منها عن شيء، ولكنها تتعاضد جميعًا لتؤلف «كلًّا» رائع الشكل. أعطانا في روايته نموذجين من أصل واحد ولكنهما مختلفان، فعنايت هانم تعيش في سراديب تاريخ أسرتها كما تعيش الجرذان في ظلمات الأقبية، وترى فيها المآدب والكوكتيل والحفلات الراقصة التي لا ينقصها إلا شرب الأنخاب.
أما أختها ركزان فهي تريد أن تغرق ماضي الأسرة في لجج النسيان، وتريد أن تعيش في حاضرها؛ ولذلك أحرقت، بعد موت أختها عنايت، كل ما تعب بطل الرواية، أمين سماع، في تحبيره. وأخيرًا نسفت القصر القديم لتبني بيتًا حديثًا لا يذكرها بالماضي.
تقول ركزان: «إنها لا تريد القصر ولا تريد الآلاف العديدة من الفدادين، ولا تريد هذا التاريخ ومستنداته الخطية. إنها لا تريد هذه كلها لأنها ملحقات الماضي وأدوات زينته، إنها سرابيل الموت.»
«إني أريد أن أتخلص من كل هذا الذي حولي، وفي نفسي من فورة الحياة ما يكفي لعشر نساء.»
ولا تظنن أن ركزان قالت هذا ارتجالًا. إنها لم تقله إلا بعدما عرَّفنا أمين بغريزة هذه الأسرة الشهوانية، فكان ينحو نحو زولا ودوستوفسكي في تصوير أسرة كارامازوف، والأب مورة.
في الرواية صراخ نفساني دامٍ، وأمين تائه بعدما تركته سمية كالهر المضروب على رأسه، يقع ويقوم، ثم يقوم ليقع، فهنا عنايت هانم تحاول تظهير تاريخ الأسرة لتتمجد به، وركزان، بعد موتها، تُحرق أصول هذا التاريخ وهي تهتف متشفية: «في النار.» تريد أن تخلص من جدودها، بينا دمهم يغلي في عروقها. فهي حين عرضت نفسها على أمين إنما فعلت ذلك بدافع مما ورثته عن تلك السلالة الفاجرة.
إن ربط الحوادث ببعضها ربطًا محكمًا يدلنا على ما أوتيه جبرا من خاصة تتبُّع خيط تداعي الأفكار وقوة المحاكمة؛ ففي هذه الرواية الصغيرة قد جمع المؤلف حوادث جمة، وأفكارًا ونظريات قالها بشجاعة تغلبت على الحياء الأدبي، فمؤلف «صراخ في ليل طويل» ينقد المجتمع وما فيه من جبن ورياء، والجميل فيها أن ما فيها من تحليل نفساني لا يبدو جافًّا كعهدنا به، ولكنه لا يمل لجمال القصر وجودته، وإن كان المؤلف يحس القبح أكثر من الجمال، ويصف القاذورات كما يصف زجاجة كولونيا. أما التقلبات التي في هذه الرواية فصورة صادقة عن حالة القلب البشري الذي لا يستقر، وكما أن الإنسان يتغير تفكيرًا وتصميمًا، كذلك حالات شخوص روايته، وخصوصًا حالته هو. إنها تصور شكوك الشباب ونظرهم إلى المثل القديمة كعجوز مجعدة الوجه، وهم يريدون — مثلًا — غيرها فتية ناضجة!
أما الذي أخفاه من حديث هجر سمية له مدة سنتين، فقد دلنا عليه إيماء لا تصريحًا، فتلك الدموع التي كانت تذرفها على فراشه لم يذكرها المؤلف إلا ليوقفنا على ذلك السر، سر فرارها وبيع العقار الذي وهبها إياه أبوها.
وتذكُّره سمية كاد أن يجعله من أصحاب الفكرة الثابتة، وسيرورة هذه الفكرة، فكرة سمية، تذكرني ببطلة دعاء الكروان لطه حسين. كانت بطلة القصة تناجي الكروان كلما سمعت صوته في الليل وذكَّرها بطائرها، وكما كانت تلك البنت التي فقدت أعز ما تملك يوقظها صوت الكروان، كذلك رأيت في داخل صدر أمين سماع، بطل جبرا، كروانًا لا ينام، بل يلهج أبدًا بذكر سمية، ولكن بين الروايتين فرقًا، فليس في دعاء الكروان ما في «صراخ في ليل طويل» من براعة قص، ومطابقة الحوار للواقع.
وفي الرواية تشابك متواصل وتنقلات سريعة تثب وثبًا من شق قلم المؤلف، كر وفر وإقبال وإدبار كحصان امرئ القيس من سمية إلى أبيه، إلى عنايت هانم وجدها عز الدين ياسر، ولكن المليح في أشخاصه هو أنها لا تقف كثيرًا، وجبرا طبيعي في مصادفته لهم وتعريفنا بهم كما تعرف هو على ظله الطويل في تلك الليلة.
وقد يُغرب في خلق شخصياته كما خلق شخصية ركزان التي نسفت قصرها وجاءت إلى بطل الرواية لتخبره وتقول له بكل بساطة: أسمعت؟
– نعم، يا ركزان، سمعت.
– اصعد إلى جانبي إذن.
– شكرًا.
– كنت أرجو أنك ستأتي معي. ألا تغير رأيك؟
– لا، لا حاجة بي إلى الهرب بعد اليوم.
وممن يهرب وقد نجا من سمية؟!
وبكل برودة تركته ركزان وكأنها لم تفعل ما فعلت من نسف قصر آل ياسر العظيم!
إن الجنون فنون، ولكن جنون ركزان كان فحليًّا، وكان على خالقها أن يهذبها قليلًا، وقد كان في الإمكان أن ينجلي هذا الليل الطويل بدون هذا الإغراب. وبعدُ، فأنا لا ألوم لأني عرفت شخصًا تملَّص من ميراث أبيه وعلل إسرافه مدعيًا أنه مال غير حلال.
إن في زوايا هذه القصة خبايا كثيرة، ولا بد لمن يتلمس جمالها الفني من أن يقرأها أكثر من مرة. لم يكتب جبرا من وحي ما قرأ، بل من وحي حياته ودراسة نفسيته، لم يبرز لنا ما في حافظته وذاكرته وذهنه من ثقافة واسعة، ولكنه جلا لنا تجاربه فنيًّا، فخرجت عرائس رائعة جميلة.
لم تكن روايته منبر وعظ أو كرسي اعتراف وإرشاد، ولكن هناك أشخاصًا يحللون مشاكلهم.
لا أقول: إنه سارتري، ولكن أقول: إنه شاب يصف ميوله ونزواته، ولم يفكر إلا بما كنا نفكر به في عز الشباب، وأراني مجبرًا على التصريح للمؤلف أنه لم يتعبني أثر أدبي كما أتعبتني قصة جبرا، وديوان «ثلاثون قصيدة» للأستاذ توفيق صايغ، وعبقرية الاثنين من مقلع واحد، وهما صديقان حبيبان.