غيوب
هذا الشاعر جديد قديم لا يترك عرائس شعره تتخطر على هواها بلا نظام ولا اتزان خطوات، فهو يقسم بيته تقسيمًا لا يجعله في واد وعمود الشعر في واد. وضع لقصيدته روابط تهتز لها قوافيه وعباراته اهتزازًا يشجيك ويطربك حتى تخالها راقصة وهي لا تبرح مكانها، ولا تنفر عن موضعها المحدد لها.
يُعنى شاعرنا بكلماته عناية الموسيقار بسلالمه، فتحسب الكلمات كلًّا وهي متفرقة، فأعجب لشعر فيه من سمات جياد الخيل ذاك العرق المتين! إن هذا الشعر لم يترك أصالة الشعر العتيق لتظل سببًا مبررًا لتلك الأعياد التي كانت تقام في القبائل كلما ظهر شاعر.
تفوح من بيوت الشاعر جورج رجي رائحة عطر «مساء باريس» الذكية، وفيها نكهة المسك والعنبر، فشعر هذا الشاعر متماسك ناعم المجس، موسيقاه في إيقاعه المنظم لا في ارتجاجه، وكيانه قائم في تألُّف مفرداته حتى تحسب كل عبارة كونًا مستقلًّا مؤلَّفًا من كائنات شتى يخرج منها النشيد.
ليس لي ما يقال في هذا الديوان الصغير الذي وضعه صاحبه ليكون نموذجًا من النماذج الشعرية الحديثة، إلا بعض مفردات كان الشاعر وضعها جريئًا جدًّا، فجاءت مقسمة تقسيمًا رائعًا لا يدانيها في هذا إلا شعر البحتري المرقص المنظم كحلقات عذارى في عرس حافل، جن في أيديهن العود والدف، واشتركت في هذا الإيقاع أقدامهن، وراحت تحط القرار عند كل وقفة.
نحن مدينون لشعرائنا المبدعين بهذا التنويع الذي ينعش شعرنا العربي الذي جمدناه في قوالب كقوالب الغاتو فكان أنماطًا، ولكن هذه الأنماط دواني القطوف.
ما تعودت أن يكون كلامي كله نعم نعم، ولا كله لا لا، فمهما كان الشاعر يستحيل أن يخلو ديوانه من محط رجل للصياد، وخصوصًا إذا كان الشاعر يحاول الخلق البديع فيختلف وقع الكلمات باختلاف الآذان؛ ولذلك قالوا: تدخل الآذان بلا استئذان.
قالوا للمعري حين حاول تقليد كلام الله في كتابه الفصول والغايات: أين هذا من ذاك؟!
فأجاب: أمهلوا عليه حتى يصقله الإنشاد والترنيم، فبين ترنيم ومرنوم فرق زهيد في ديوان جديد يرجى أن يكون أساسًا لمدرسة جديدة.
وهناك ألفاظ أخرى منتشرة في الديوان انتشار النمش في وجه المليحة كان أحرى بها أن تستر ما يجب أن يستر ببرقع، يذهب بمنظر النمش ولا يخفي سفر تكوين الوجه.
وما أراك أيها القارئ إلا ضاربًا بيديك الثنتين على فخديك حين تقرأ في صفحة ١٩: خففي يا شعر …
مهلًا، رويدًا، نحن نكتب لقارئي الأدب العربي، فما علينا إلا أن نُذكِّرهم بقول ابن الرومي في لحية البحتري:
إلخ.
تكثر في شعر رجي الألفاظ الدائرة على ألسنة شعراء الشباب، وشاعرنا شبَّ تام الألواح، فما عليه إذا ذكر لنا كلمة الغوى في مواقف شتى.
وكما قال مرنوم: يحق له أن يقيس أطروبة على أطروحة …
وبعد، فليس كل ما يصح قياسًا يصلح لباسًا، وقد ذكرتني بوسة الحلم برأي إمام المجددين أحمد فارس الشدياق …
الله معك يا جورج، ولعلنا نعيش حتى نرى مشايعيك قد كثروا، هات مثل رَيْحن ولا تتوغل كثيرًا في هذه الاشتقاقات كما نرى عند المتطرفين.