دع القلق وابدأ الحياة
عندما نعت الأسلاك البرقية المستر ديل كارنيجي الأمريكي كنت في المستشفى، فانقبض صدري وحزنت على معلم إنساني عظيم. إنه غير كارنيجي المحسن الأكبر الذي وهب الجمعيات الخيرية ٣٦٥ مليونًا من الدولارات؛ ولكن فضل ديل كارنيجي هذا على الإنسانية باقٍ إلى الأبد، بينا مئات ملايين دولارات أندرو كارنيجي قد تكون أنفقت ونفدت.
فديل كارنيجي في معهده للعلاقات الإنسانية، وفي كتابيه: «دع القلق وابدأ الحياة» و«كيف تكسب الأصدقاء» قد يخلق رجالًا يكون منهم عباقرة من أمثال فورد وفلان وفلان.
إن موت رجل مثل ديل هذا يعد خسارة عظمى؛ لأنه دلَّ الناس على أقرب طرق الفلاح، فأحد كتبه يوجهنا في المجتمع ويهدينا أقرب طريق إلى قلوب الناس، وكتابه الثاني يحل مشاكلنا، ويرشدنا إلى مجابهة المخاطر بأعصاب لا تنهار أمام الحوادث الطارئة.
ماذا تنفعنا دروس الفلسفة والآداب إذا كنا نجبن عندما تنهز الأرض، فتهبط قلوبنا، ونلفظ أرواحنا؟ أما طفر سكان بيروت كثول نحل غادر الجرة في يوم حر؟ أؤكد أنهم لو كانوا قرءوا كتاب كارنيجي: «دع القلق وابدأ الحياة» لخاطبوا أنفسهم: مكانك تحمدي أو تستريحي. لقد طالعت هذا الكتاب مرات قبل العملية الأولى وبعدها، فكنت كلما أعدت قراءته أجدني أشجع مني قبل ذلك، ولما حانت ساعة العملية الثانية استلقيت على المشرحة كأنني أضطجع للقيلولة بعد الظهر.
فمن يقرأ هذه الحكاية الواقعية ولا يتشجع ويستقبل مرضه ببطولة: كان رجل يدعى إيرل هاني من ولاية نبراسكا يشكو قرحة في الاثني عشري، وقد صرح له ثلاثة أطباء بينهم أخصائي شهير في أمراض القرحة أنه لا يرجى له شفاء، ونصحوه بأن يمتنع عن الطعام، وأن لا يقلق أو ينزعج لشيء، وأن يحيط نفسه بهدوء تام، كما نصحوه بكتابة وصيته.
فترك إيرل هاني المقروح وظيفة تدر عليه ربحًا كبيرًا وقعد يتطلع إلى الموت الذي يسعى إليه بطيئًا، وفجأة اتخذ إيرل هاني قرارًا مدهشًا، قال في نفسه: إذا كان لم يبق لي في هذه الحياة سوى أمد قصير، فلماذا لا أستمتع بأيامي الباقية على أكمل وجه؟ طالما تمنيت أن أطوف حول العالم قبل أن أموت، فإذا كان لي أن أنفذ هذه الأمنية؛ فالآن هو وقت التنفيذ.
ومن ثم ابتاع تذكرة السفر، فارتاع أطباؤه وقالوا له: ينبغي لنا أن نحذرك أنك إذا أقدمت على هذه الرحلة فستدفن في قاع البحر، ولكنه أجاب: كلا، لن يحدث شيء من هذا، فقد وعدت أقاربي ألا يدفن جثماني إلا في مقابر الأسرة.
واشترى إيرل هاني تابوتًا اصطحبه على الباخرة ليدفن فيه إذا مات في أثناء الرحلة، ثم ركب السفينة وهو يتمثل بقول عمر الخيام: انعم أقصى النعيم بما ملكت يداك.
إلا أن هاني لم يقطع الرحلة بدون شراب، فقد كتب إلى زوجته رسالة يقول فيها: لقد شربت النبيذ على السفينة، ودخنت السيجار، وأكلت جميع ألوان الطعام حتى الدسمة منها التي كانت كفيلة بالقضاء عليَّ. لقد استمتعت بهذه الفترة أكثر مما استمتعت في ماضي حياتي، مارست صنوفًا متعددة من اللهو على ظهر الباخرة، وكنت أسهر إلى منتصف الليل، واكتسبت أصدقاء جددًا، وعندما وصلت إلى الهند والصين أدركت أن المتاعب التي لقيتها في بلادي تعد جنة بالنسبة للفقر والجوع اللذين يعانيهما الشرق.
وعندئذ كففت عن القلق السخيف، وأسرعت إلى أقرب دكان وبعت التابوت، ولم أعد أشعر الآن بالمرض.
هكذا علمنا هذا الكتاب كيف نقابل خوفنا وقلقنا وهمومنا برباطة جأش فنتغلب عليها، قال المتنبي:
إن هذا القول يشخص المرض، ولكنه لا يصف الدواء، أما ديل كارنيجي فيضع لنا دستورًا لكي نتغلب على المخاطر، فيقول بعد سرد هذه الحكاية الغريبة: هيئ نفسك لقبول أسوأ الاحتمالات، ثم أسرع في إنقاذ ما يمكن إنقاذه.
من مثل هذه الحكايات اكتسبت الشجاعة، فرأيتني رجلًا آخر، وتغلبت بإرادتي على الموت الذي كان ينتظرني.
أما ما استفدته في موقف آخر، فهو أنني كنت أقرأ من كتاب كارنيجي فصلًا عنوانه: ارضَ بما ليس منه بد. وكنت قد تعبت، فلما وصلت إلى هذه الكلمة، وهي لوليم جيمس: كن مستعدًا لتقبل ما ليس منه بد، فإن تقبُّل الأمر الواقع خطوة أولى نحو التغلب على ما يكتنفك من صعاب. أطبقت الكتاب واسترخيت لأنام، ولكني استيقظت على خلاف عادتي، ففتحت الكتاب فوقعت عيني فيه على كلمة لشوبنهور: «إن التسليم بالأمر الواقع ذخيرة لا غناء عنها في رحلتنا عبر الحياة.»
ونمت بطلًا، وكانت الزلزلة الأولى، فتقلقل السرير وماد البيت بنا، فقلت لابني: زلزلة لا تخف، ثم كانت الثانية، فقلت له: شعور رءوسكم محصاة لا تخافوا. هكذا قال الإنجيل، وقُل لَّن يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللهُ لَنَا يقول القرآن، وكانت الزلزلة الثالثة وطفر التلاميذ من المدرسة، فرحت أشجعهم ليعودوا إلى أسرتهم، وقلت لهم: روحي وروح ابني عزيزتان علي مثل أرواحكم، وأنا راجع إلى غرفتي لكي أنام فلا تخافوا، وهكذا نفى عني كتاب ديل كارنيجي الخوف، ولولا ما بثه فيَّ من شجاعة لربما كنت مت قبل أن يطبق البيت عليَّ.
فبلسان كارنيجي، رحمه الله، أقول إلى الذين وهنت عزائمهم ولا يزالون ينتظرون حدوث زلزلة كل ساعة: دع القلق وابدأ الحياة.
إن الحياة أقصر من أن نقصرها. هكذا قال دزرائيلي، وعلى هذه الكلمة علَّق أندره موروا قائلًا: لقد ساعدتني هذه الكلمات على احتمال أكثر من تجربة مريرة، فنحن غالبًا ما نسمح لأنفسنا بالثورة من أجل توافه ما كان أخلقنا بتجاهلها. ها نحن في هذا العالم لا ينفسح عمر أحد منا أكثر من بضع عشرات من السنين، وبرغم ذلك، فإننا ننفق ساعات العمر التي لا يمكن تعويضها في اجترار أحزان ومخاوف خليقة بالنسيان؛ فلنملأ حياتنا بالنشاط المثمر، والأفكار المجدية، والأعمال النافعة، فإن الحياة أقصر من أن نقصرها.
قال السلف: وقوع البلاء ولا استنظاره. هذا درس بليغ في أربع كلمات، فماذا يجدينا خوفنا من وقوع الزلازل، الأرض تهتز ولا تقع. هكذا يجب أن نقول، فالأمثال هي جامعة الشعب الكبرى، وكما يعود القطيع المروع آمنًا إلى المرعى، هكذا يجب أن نفعل نحن، فالقلق يحطم أعصابنا فلا نستطيع المقاومة فيما بعدُ.
إن الخوف من المستقبل يؤدي بنا إلى انهيار ذريع، فكما قال الفيلسوف الإغريقي منذ خمسة آلاف سنة: كل شيء يتغير إلا قانون التغير. إنكم لا تهبطون نهرًا بعينه مرتين، فالنهر يتغير كل ثانية، وكذلك الرجل الذي يهبطه، فالحياة في تغير لا ينقطع، والشيء الأكيد في هذه الحياة هو اللحظة التي تعيش فيها، فلماذا نُشوِّه جمال لحظتنا بحمل هموم المستقبل ومخاوفه، وهو الذي يخضع لقانون التغير؟
فلنغلق الأبواب على الماضي والمستقبل ونعش في حاضرنا؛ فالحاضر وحده مضمون لنا، فلنتمتع به، أما أن نصرفه في الخوف من المرض والزلازل وغير ذلك من البلايا؛ فهذا هو الضلال القاتل.
أما كيف يجب أن نقاوم هذا القلق والخوف فعلينا، كما يقول ديل كارنيجي، أن نستغرق في العمل لننسى، ولا ننسى همومنا إلا إذا حل محلها العمل، فالرأس البشري لا يستطيع أن يفكر بشأنين في وقت معًا، فلنشغل عقلنا بعمل ما لننسى التفكير بمخاوف المستقبل.
إن في اللجوء إلى الخالق تعزية وتقوية، فلنصلِّ ولنعملْ في وقت معًا؛ ففي الصلاة تقوية، وفي العمل نسيان يبعدان القلق عنا. أما أنا فمديون لديل كارنيجي، ولعلي وفيت هذا الرجل بعض حقه إذ كتبت هذه الكلمة.
رحمه الله وجزى مترجم كتابيه الأستاذ عبد المنعم الزيادي خيرًا، فقد أهدى إلى المكتبة العربية كتابين لم يترجم بعدُ أنفع منهما.