جئناك يا شدياق
جئناك يا شدياق وأيدينا فارغة إلا من الحكي، واليد الفارغة مجوية. هكذا قال المثل.
ظننا أنك مستريح في بيتك، فإذا بنا نراك مهاجمًا من كل صوب: الصبيان يلعبون على قبرك، والقذارة للزنار. ظنناك خيرًا مما كنت في تلك الوهدة، وحسبنا أنك قد نجوت من غارات المكارين، فإذا بك غارق في بحر من الزبالة، الغسيل يطوق القبر، ثياب فوقانية وتحتانية، سادة وملونة كأنها بيارق تزين قبر صقر لبنان، ولا عجب فالجيران لا يعرفون أي عظيم يجاورون، والأدباء، يا زعيمهم الأول، لا يعنيهم من أمرك شيء، والبلدية «خبر ما فيش».
حين بدا لي القبر المهجور من دار الصياد، بل قل من ناطحة السحاب، طرحت على المحررين هذا السؤال: أتعرفون قبر من هذا؟
كان الجواب صمتًا، ولم يعرفك أحد إلا جار الرضا صاحب الصياد، فقلت له: الجار ملزوم بجاره، وبينك وبين الشدياق نسب هو فوق الجوار؛ لقد سبقك إلى محبة المرأة حتى العبادة، فهو يقول في مقدمة كتابه الفارياق: إنما قصدت بتأليفه التقرب إليهن، وترضيهن به، وحسبي أن يبلغ مسامعهن أن فلانًا قد ألَّف في النساء كتابًا فضَّلهن به على سائر المخلوقات.
فأبشر إذن يا شدياق، فأنت في جوار رجل يعرف قيمة الرزق، ويُؤلِّه الحسن والجمال. ولا شك في أن العناية ساقته إلى جوارك ليكون ركن مزارك. ومن أجل الورد يشرب العليق. إن من عرف كيف يبني ناطحات سحاب لا يعجزه أن يحميك من الغبار والتراب، ويجعلك منارة إزاء منارة. إن من سعى فأرسل أبطالًا تقهر المانش لا يصعب عليه أن يُكرم من عبر إلى كبريات عواصم الشرق والغرب وكان فيها العلم، وظل سباح غمرة حتى مات، وما خيم قط في الشاطئ.
كانت الناس تمر ولا تسأل، أما اليوم وقد قامت هذه المنارة على طريق الهند، فماذا نجيب إخواننا إذا سألوا: قبر من هذا؟
نحن لا نقول لجماعتنا: ارفعوا له تمثالًا؛ فالتماثيل لا تقيم تماثيل.
ولا نقول لهم: احتفلوا بذكرى مرور المائة والخمسين على ميلاده، فهذا لا يهمهم، ولا يوبيل المائة لظهور كتابه الفارياق؛ لأنهم لا يقرءون، ولسنا نقول لهم: أعيدوا طبع كُتبه. احسبوها مثل غيرها من الرطانات التي تنفقون عليها بغير حساب.
ولكننا نقول لهم: احترموا الأموات. عيب عليكم وعار أن تزدروا القبور. السلطان بنى له هذا الضريح؛ فصونوه أنتم وكنسوه على الأقل، ثم ما قيمة اللافتة؟ ضعوا على الأقل بلاطة ليعرف المارُّون من عرب وعجم أن الشدياق عربي لبناني أنجبه هذا الجبل. أينام هذا العبقري في ظلام النسيان وهو ابن بلد الإشعاع؟
إن هذا الكوكب السيار ملأ الدنيا هدى ونورًا، فكيف يقعد قبره على جانب الطريق كالدرويش في أطماره، أو كقنديل عتيق لا زيت فيه؟
لماذا نتبجح بسيفنا والقلم؟ فأي قلم عندنا قبل هذا القلم؟ وهل للبنان فصاحة وبلاغة وفن قبل هذا الرجل؟
من عادة البيوت العريقة أن تحفظ عتيقها لتدل على قدمها، فماذا عمل بلد الإشعاع لأركان النهضة الحديثة؟ هل يقدر أن يدل على قناديله؟ فأين قبر اليازجي؟ وأين ضريح البستاني؟ وأين وأين؟ إن الذبان الأزرق لا يعرف قبور هؤلاء.
ما كان أكبر دهشة محرري الصياد حين أومأت إلى القبر وقلت: جئناك يا شدياق، أنتم أيها الكتاب المحدثون جيران جد الصحافة العربية أحمد فارس الشدياق صاحب الجوائب. أنتم جيران كاتب الفارياق، وكشف المخبا، وسر الليال، والجاسوس على القاموس. أنتم هنا تستلهمون الأديب اللبناني الأول ركن نهضتنا الوطيد الأركان. أنتم جيران الرجل الذي أحب اثنتين في الدنيا: اللغة والمرأة، ولأجلهما وضع كتابه الفارياق.
أما وقد حل قربه صاحب الجعبة، فلا شك أنه سيزوره في ليلة ما فيها ضو قمر ويقول له: الحقوق محفوظة يا سعيد. فيقريه سعيد واحدة من جعبته، وكلها من ذاك الصيد الحلال، فيتعجب الشدياق كيف التقيا على صعيد واحد؛ صعيد محبة المرأة وانتقاد الأجانب.
وتسمع أم البنين فتستيقظ على صوت العتاب صعوده وخفوته، فتقول للفارياق: الخير كثير، والرزق قابر صحابه، فعلام الخوف؟!
فيقول الشدياق: أنا جئت أزور سعيدًا جار الرضا وأشكره؛ لأنه يتم ما بدأت به، فأنتن، يا سيدتي، زينة الدنيا وبهجتها، وبدونكن الحياة لا تطاق.
ويلتفت إلى سعيد ويسأله: هل قرأت الساق على الساق؟ فيجيب سعيد: الكتاب يُقرأ من عنوانه.
ويقول الشدياق: وكشف المخبا؟
فيقول سعيد: كما حسن كما حسين.
فيتنهد الشدياق ويقول: يا سبحان الله! كيف التقينا؟ ولكن شتان ما بين الجارين، أنت في هذا البرج الكشاف، وأنا في ذلك الكوخ أحتمل عبث الصبيان ورقصهم فوق رأسي. فكر في أمري يا جار، أما قرأت حديث نبينا ﷺ: ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى خفتُ أن يُورِّثَه.
لا تخف يا سعيد، أنا لا أطالب بالميراث، جبر الله خاطرك بالشباب، ولكن أطلب أن تريحوني من الأقذار، فنحن بنو الموتى لا نستطيع سد أنوفنا.
ألا تعلم أني طالبت بعتق الرقيق في الآستانة حتى أقلقت صرخات الجوائبِ الدولةَ العلية، وأرغمتها على منع بيعه؟ أفلا تهب أنت مطالبًا بعتق جارك من عبودية الأقذار؟ ما زلت أذكر قول مثلنا: الجار ركن الدار، وأنا لا أطلب شيئًا غير كوخ نظيف أستريح فيه، حتى إذا جئتكم زائرًا الصياد لا أحمل معي عبيرًا تسد منه الأنوف.
وكرهت رجعة الشيخ خائبًا فقلت له وهو ينهض: أبشرْ يا شدياقُ أبشرْ، إن من بنَى فأعلى سوف يتبنَّاك، سوف يوقظ الناس في ذكرى مرور مائة وخمسين عامًا على ولادتك، وذكرى مرور قرن على فارياقك وترياقك، وما لنا عليك شيء إلا أن تُمدَّنا بشيء للصياد، فكلُّ الصيد في جوف الفرا.
فضحك الشدياق لجوف الفرا وقال ساجعًا: بشرط أن تخلصني من اﻟ …