آثار أقدام
عنوان طريف جدًّا لخير كتاب فيه النظرة العميقة إلى سراديب السياسة وأغوارها، فبينما تراه يبحث في غضون الأحداث العالمية وفروعها إذا به يتسرب إلى الجذور التي تعيش في الظلمات، وترسل أنفاسها زفرات مملوءة غازات خناقة.
فآثار أقدام رابورتاجات أمست وثائق تاريخية، ولعلها أصدق من الكثير من حكايات التاريخ وأساطيره؛ لأن كاتبها تتبع أفاعي السياسة في مساريها، ودل على دروبها الملتوية، قلت: الأفاعي؛ لأن السياسة مثل تلك الحيات لينة الملامس كثيرة المعاطب في تقلبها … فالذي يقرأ هذا الكتاب الضخم يخال أنه يقرأ أخبارًا ومكالمات سطحية، وهي أعمق ما يكون العمق؛ فالأستاذ إميل خوري، وهو كاتب سياسي عالمي يكاد يكون في كتابه هذا مستنطق الساسة العالميين ليجلو لنا عرائس أفكارهم جميلة وقبيحة، وربما كان في القبح جمال يندر وجوده في الجمال المثالي.
إن «آثار أقدام» عنوان يوحي إليَّ ما لا يوحيه إلى غيري، عرفت صاحبه فتى طري العود حين كنت أنا شابًّا؛ فإميل الخوري خلق ليكون كاتبًا سياسيًّا، وقد قوَّى هذه الملكة فيه ميله وطموحه، كان له في معالجة الشئون العالمية ولع استحال غرامًا، فهو يقبل على موضوعه بكل قواه، ويظل يغربل الحوادث وينخلها حتى يعطي القارئ اللباب فيكفيه مئونة التعلل بالقشور، عفوًا هذا تعبير أعتق من الخبز؛ فالنخالة اليوم محمودة لأن فيها خير الغذاء.
إن إميل الخوري في عصرنا هذا كالشدياق في سياسياته ينظر إلى ما سيكون كأنه كائن، حاد الذكاء ثاقب الذهن، يؤدي فكرته بعبارة سهلة ولكنها متماسكة ملزوزة فيها ملاسة الباطون المسلح وصلابته.
فإميل خوري، وأنا من رأى هذا البدر هلالًا، لا يرقص على الحبلين، فهو وإن اختبر حيل السياسيين ودهاءهم في نقضهم وإبرامهم ظل رجل عقيدة لا يتنكب عن الجادة التي يعتقد أنها مؤدية إلى الخير، فهو يكتب مؤمنًا، وليست السياسة عنده تجارة … لا يتنكر لمن يعرفهم مهما تقلبت أحوالهم، فهو لهم وهم منزوون في منازلهم، كما كان لهم وهم في أوج عزهم. وها هو يبدي لنا صفحته في مطلع كتابه هذا، أهداه إلى الشيخ بشارة الخوري، رئيس الجمهورية السابق، في وقت تنكر فيه للرجل من كان أقرب المقربين إليه.
أجل لقد أنكره من تقلب في نعمائه، وراحوا يفتشون عن نعم جديدة، وربك يرزق من يشاء بغير حساب، وهذا الرفيق القديم، إميل خوري، يقدر الأدب الرفيع لأنه أديب أصيل وسياسي ضليع؛ ولذلك ذيَّل تقديمَه الوجيزَ بهذه العبارة البليغة: فإلى سياستك الخارجية الحكيمة، وإلى أدبك السياسي الرائع، أقدم هذا الكتاب.
هذه عبارة إهداء الكتاب، أما مقدمته فقطعة فنية تلخص هذا المجلد الضخم الذي شعت فيه الأضواء فأنارت زوايا حوادث الحرب الهتلرية. لا يتنكر إميل للتعبير الأدبي الرصين حين يتحدث عن ماجريات السياسة العالمية، فهو كالمصور الذي يعطيك بخطين ثلاثة صورة من يحدثك عنه كاملة إذ يقول: وشمبرلين غادر هذه الدنيا غير مخلف سوى ذكر الرجل الطيب المستقيم، وغرنج وغوبلز مضيا على طريق الزباء «بيدي لا بيد عمرو.» إلى أن يقول: أما الذي أرسل الصواعق على العالم الوثني أدولف هتلر، فقد حملته أجنحة النار في جو من أجواء موسيقى وغنر، إلى مكان قصي في عالم الولهالا.
هؤلاء الرجال، وغيرهم من ضحاياهم أو شركائهم في المآسي، تنعكس صورهم على صفحات هذا الكتاب، ويسمع دبيبهم بين سطوره، وكلما غاب منهم فوج أقبل فوج حتى ليشعر القارئ أنه مقيم وراء أفق هذه الحياة على أشهر ما تكره النفس مما يصوره الموت.
وبين الماضي المظلم الذي حضرت القسم الأكبر من مقدماته، والحاضر المضطرب الذي يتململ أبناء هذا الجيل من ظواهره وخفاياه، وجوه شبه عديدة أهمها عود الكبار إلى التصرف بمصاير الصغار بمعزل عنهم وعلى كره منهم، وانقسام العالم إلى جبهتين متباغضتين تلوحان بالحق وتعززان القوة إلخ.
لقد أحسن الأستاذ الكبير إذ وضع هو مقدمة كتابه؛ لأنه لا يجد من يحسن تقديمه وتعريف القارئ به غير مؤلفه الفذ الذي ولد وشب سياسيًّا.
وكما وصف إميل خوري السياسي الداهية آثار أقدام غيره، فليسمح لي أن أذكره في كلمة عابرة بآثار أقدامه، هو، وهي أولى خطواته. كان ذلك في جريدة النصير عام ١٩٠٨، يوم كانت النصير جريدة أسبوعية تهاجم، كمجلة الصياد اليوم، الحصون لتدكها ولا تتهيب القلاع وما فيها من عتاد الاستبداد.
في ذلك الزمان عرفت هذا الشاب الألمعي الذي دلتني وسامته على نبله وشرفه، وأعرب لي ما ترسله عيناه من شرارات نافذة عن المستقبل الذي ينتظره، تبرع بمعاونتي في تحرير جريدة النصير فأدخل عليها دمًا جديدًا، وروحًا سياسية خارجية وداخلية أعجبت بها، وقد زادت الجريدة عظمة شأن فوق ما كان لها.
إن هذه الريبورتاجات التي تعتمد عليها الصحافة اليوم كان الشاب إميل خوري أول من أدخلها على الصحافة اللبنانية، فهو أول من بث فيها روح التطلع إلى الشئون العالمية. سمع إميل بضيف خطير جاء بيروت زائرًا فقابله، وأنتجت تلك المقابلة حديثًا خطيرًا في ذلك الزمان. نشر الحديث في عددين من النصير ٢١ و٢٨ آذار ١٩٠٨، ولا عجب إذا كانت ذيول الحديث ضافية؛ فالمستر جفريس صحافي إنكليزي ومدير شركة مباحث في لندن.
تناول هذا الحديث الشئون السياسية والعمرانية التقدمية والنهضة الأدبية، وفي الحديث ظرف وطرافة أحب أن تشاركني بهما، فبعد أن تحدث جفريس عن البضائع الأجنبية الأكثر رواجًا في بيروت ختم هذا المقطع من الحديث بقوله لإميل: والأعجب أننا لا نرى فيكم ميلًا إلا للأحذية من مصنوعاتنا؛ فقد كثرت جدًّا عندكم حتى إن خَدَمة الفندق يستعملونها.
قال إميل: فقاطعته قائلًا: ربما نكون وجدنا أن أحذيتكم أحسن شيء عندكم فلبسناها، ونحن على ما تعهد نقتطف من كل شعب ما يروقنا.
وأعجب جوابي المستر جفريس وكنت ظننته يسوءُه فضحك وضحكتْ قرينتُه معه، ولكنه لم يَحْلُ لابنته، فنفرت ثم رجعت وعاتبت أباها على بقائه مصغيًا لحديثي ومجيبًا على أسئلتي، ولكنه اكتفى بتقبيلها، ثم قال لها أن تهتم بكلبها وتدعنا وشأننا، على أنني اعتذرتُ إلى الفتاة فلثمت يدها وقلت لأبيها: وهل عادة تقبيل أيدي الأوانس آتية إلينا من بلادكم ضمن الأحذية، أم نحن نقلناها عن الفرنسيس والألمان؛ باعونا إياها كما يبيعوننا أقمشتهم؟
فأجاب المستر جفريس ضاحكًا، وانتقل الحديث إلى الأدب فقال جفريس: وهل تقرأ نساؤكم الصحف؟ وهل منهن كاتبات؟ فأجابه إميل: إني أحسب مدنِيَّتَكم هي سبب تركهن مطالعة صحفنا ليتهافتن على قراءة روايات الإفرنج.
فقال جفريس: كل شعب كبير بأدبائه وكتابه، فعلى كل بلاد أن تعزز أدبها، وتحترم الكتبة فيها ولا سيما الصحافيين.
وحان الغروب وأراد إميل الانصراف فلم يطلق المستر جفريس سراحه إلا بعد شرب الشاي، وودعه إلى الباب الخارجي وقال له بالإنكليزية: عند رجوعي إلى لندن سأنشر في المورنن بوست مقالة في شئون هذه البلاد. هذا إذا كان الأمر لا يسوءُك.
فأجاب إميل: لا مانع إذا كتبت بقلم مريد الإصلاح.
أرأيت الخطوة الأولى؟ فعلى هذه الأقدام سار إميل في الدنيا بخطى جبارة، فتجلت عبقريته اللبنانية التي لا تنمو في تربتنا. وبعد أربعين سنة وأكثر التقيت إميل أول مرة في بيت وزير الدولة السيد صائب سلام، وثاني مرة منذ أسبوع في دار الصياد، وكنا ثلاثتنا، أنا وإميل والأستاذ سعيد فريحة، ولعله الروح القدس، ورحنا نتذكر أمامه آثار أقدامنا، ودار حديث دسم لا محل لنشره هنا.
والآن لنعد إلى كتاب آثار أقدام وكل ما أقول فيه: إنه لا يُلخَّص، ويجب أن يُقرأ من الجلد إلى الجلد؛ لأن فيه ثقافة سياسية عالمية، عالجها إميل بخبرة هي أصيلة فيه، وزادها روعة كونه كان مراسلًا لأعرق وأقوى جريدة عربية. وحسبك بعد أن تطالع ماجريات أحداث الحرب الكونية الهتلرية أن تطالع أروع مقالات هذا الكتاب التي عنوانها خريف السلام. وهي مرحلة الاستنتاج، بل الفقرة الحكمية في لغة القاضين، وهنا المشقة كلها كما يقول إميل.
يحكم إميل على أن الناس في الشرق والغرب، بل في الغرب أكثر من الشرق، متيبسون على تقاليدهم وعلى أهواء طبقاتهم، فإذا قلت لأحد الديمقراطيين فيهم: إن سهمًا من سهامه قد طاش، أو إن الديمقراطية التي هو من ركائزها أسفَّت وصارت لا تنقبض عن الدون، ولا تنفر عن منازل الهون، اتهمك بأنك نازي أو فاشي، وأوعز أن تبث حولك العيون والأرصاد.
وإذا قلت لنازي أو فاشي: إن مطامع زعيمه طمست على عين الحق في أمته، أو إن هذا الزعم يوقظ في نفوس الناس، وقد طبعوا على التعدي والشر، أفشى الغرائز الحيوانية، تجهَّم لك وأغلظ الكلام.
وقد يكون أخف الكلام أنك من دعاة الديمقراطية.
ثم يحمل حملاته الغواشم العوادل في وقت معًا مفلسفًا السياسة، ودالًّا على الطريق التي سلكت فأدت إلى النكبة العالمية التي لم يُسمع بعدُ بأفظع منها فيقول: رافقت عصبة الأمم هذه خمس عشرة سنة وجدتها فيها مرآة لتدني القيم في أوروبا، ومقياسًا لانحدار الحكام عن المثل العليا التي لا عزة بدونها لشعوب، ولا كرامة للأفراد.
إن كتاب آثار أقدام الذي يرينا مطامع الدول بوضوح وصراحة، وأظن أن اللغة العربية لم تفز بعد بأصرح من هذا الكتاب. ليس لي القول الفصل في هذا المقام، ولكنني مقتنع أن ما أقوله هو الحق، ولي من اعتقادي شفيع بضعف معرفتي بدخائل السياسة، ولكنني مقتنع بكل ما قرأت، وللقارئ المطلع على هذا الكتاب أن ينقض حكمه أو يبرمه.
ولعل الأيام تتيح للبنان فرصة يستفيد منها من نباهة هذا الرجل وعلمه، فهو يستطيع أن يقف مع دهاقين السياسة الكبار على صعيد واحد، ووقفة النظير أمام النظير.
هذا هو إميل الذي طار من عش النصير في فرن الشباك، وعاد إلينا نسرًا قشعمًا يحدق بعينيه إلى عين الشمس. كانت لي وله آثار أقدام، ولكن أقدامه استحالت أجنحة جبارة تخفق في سماء السياسة العالمية، أما أنا فبقيت بين أربعة حيطان أربي نسورًا وعقبانًا، والله وحده أعلم بالمصير، طار هو بجناحين وبقيت أنا أمشي على قدمين.
إن كتاب آثار أقدام يفتح أبوابًا أمام دولتنا الناشئة؛ فهل من مستفيد؟ وهل من يقول لهذا المؤلف سلمت يدك، وأنار الله طريقك كما أنرت ما كان مظلمًا من طرقنا؟ كل الدنيا مثل بيتك. هكذا علمونا فلنقايس.