سيعودون
الأستاذ رشاد دارغوث قصصي من الطراز الأول، وقد ظهرت عبقريته القصصية في أولى رواياته «خطيئة الشيخ»، فقفز بها إلى الصف الأول، وكان في طليعة أدبائنا الأفذاذ. على خطيئة الشيخ قام صرح شهرته، ثم أتبعها بمجموعات قصص قصيرة حالفه فيها التوفيق الفني، فالحاج بحبح، وحمامة الوادي، وعلى دروب الحياة، وتوهاتا، فيها من روائع الأقاصيص شيء كثير.
وها هو اليوم ينتقل إلى المسرح فيكتب لنا مسرحية «سيعودون». الضمير يعود إلى المغتربين، والضمير لا يعود إلى متأخر لفظًا ورتبة فهل يعودون هم بعد التقدم؟ الله أعلم بالسرائر.
نهج رشاد نهج تيمور في أقاصيصه، وأغلب الظن أنه أراد أن يكون له مسرحيات مثله، ولكن يبدو لي أنه في مسرحيته هذه أوفر حظًّا من الأستاذ تيمور؛ لأنه انتزع مسرحيته من صميم حياتنا، وقد عمل بقول أرسطو المعلم الأول: ليست مهمة المؤلف المسرحي أن يصف الواقع، بل الممكن وقوعه.
قسم أرسطو أبطال المسرحية إلى ثلاث فئات: فئة هي فوق الناس؛ أي الآلهة، وهؤلاء فاتهم الزمان ولم يعد لأصحاب العروش خبز في مسارح هذا العصر، فقد حل محل الملك «راعي البقر» الذي سيأتيك خبره في سيعودون، وفئة ثانية هي مثلنا، وفئة ثالثة هي دوننا. أما شخوص مسرحية رشاد فيظن أنها نسخة طبق الأصل عنا، ولكنها ليست واقعية بهذا المقدار؛ ولهذا جاءت كما يجب أن تكون المسرحية الحق.
فمسرحية «سيعودون» ذات أشخاص يسيرون في حياتهم سيرًا هادئًا مطمئنًّا. وهذا مصدره شخصية المؤلف خالقهم.
قال في المواليد الحقيقيين: الابن سر أبيه، ومن يشابه أباه فما ظلم، فنحن يحق لنا أن نقول: بورك في البنين الصالحين يا رشاد، فهذه المسرحية وإن كانت من عمل خيالك فهي لا تختلف عن الحياة، فعندما نقرؤها لا نتمالك أن نقول: الحياة هكذا، وربما قلنا أيضًا عن أكثر شخوصها: هذا مثل فلان.
لقد طرق رشاد ناحية بكرًا من نواحي حياتنا الحاضرة، ولم يعش في فردوس الماضي السعيد المفقود. لقد صلى على الحاضر، وأكلنا من مأدبته طعامًا شهيًّا، فقصة مسرحيته من مستوى رفيع لا تصف مكانًا ضيق المحيط، وحوادثها ليست من الشئون الميتة، بل تصف نصف شعب أو أكثر، وتمثل لنا في سعيد «بك» الإبراهيم، راعي البقر، نسخة غير نادرة الوجود. نسخ رشاد أبطاله عن سجل الحياة، ووهبهم حواره وأسلوبه حياة لا هي بالصاخبة ولا هي بالبليدة؛ فوظيفته التي تريه كل يوم صورًا ألوانها شتى وملامحها أشكال هي التي خلقت لنا أم هالة المنتظرة لبنتها صهرًا مليونيرًا، فجعلها حلمها الماسي تهجس بسجل التشريفات. أليس أول ما يفكر به القادم إلينا هو أن يعرج على القصر، ويدون اسمه في سجل التشريفات، وسيان عنده إن تشرف بالمقابلة أم لم يتشرف … أما لحسن الفرن على ريحة الكبة؟
فمسرحية «سيعودون» مدنية، ولكنها تنظر إلى الضيعة وتستلهمها. أما قال المحقق للدكتور: لا شكر على واجب؛ فنحن من «ضيعة» واحدة! فالشخوص جبليون احتلوا المدينة ولم يختف بعدُ طابعهم، وهم كبطل المسرحية سعيد الإبراهيم الذي لم تختف ملامح جبليته وإن ولد وتربى في أمريكا.
فهذه المسرحية الطريفة مرحة، ولكن مرحها مُبطَّن بالسخرية من أبطالها، وركائزها الفنية قائمة على النقد الاجتماعي. وهذا النقد موحًى به من هناك، وكأني برشاد يقف في ديوان الرئاسة مستعرضًا الأنماط ومنتقيًا منها ما يلائم موضوعه. وكم نحن في حاجة إلى من يصور لنا هذه المشاهد في حياتنا! وهل يحسن تصويرها إلا من كان كالأستاذ دارغوث شديد الاتصال بالقصر ومن يتهافتون على أعتابه؟
إن الكاتب الفنان الأصيل يستلهم الشخوص الأحياء الذين تقع عليهم عيناه، فيستعير منهم ما يلائمه ويترك ما بقي إلى موعد آخر؛ فربما احتاج إليه، إلا أنه يكيف ويحور كما تقتضي الحال، وإذا كان يخشى أن يفتضح أمره ويغضب من صوَّره، فإنه يضع في بطاقة الهوية التي منحها لذلك الشخص علامة فارقة تزيل الشبهة وتبعد الظن. ورشاد دائمًا في تأمل وتألم؛ لأنه من طبعه سامٍ ويتسامى دائمًا دافعًا نفسه إلى المثل الأعلى، بل إلى قمة المثل الأعلى. متأمل لأن كل شخوص مسرحيته مخلوقة طبق نماذج، ومتألم وألمه الحاد يظهر من عطفه على الموظف الذي رزقه الله أولادًا بغير حساب؛ خمس توائم، وتتحرك عاطفته الإنسانية العميقة فيهيئ له سعيد الإبراهيم بطل القصة، فيتبرع له على طريقة الأمريكان بعشرة آلاف دولار. وهكذا أصاب عصفورين بحجر واحد؛ صوَّر شقاء الموظف الأمين وما اكتسبه المهاجر من خلق الأمريكان، وإن كان راعي بقر كسعيد الإبراهيم، ثم يصور هذا المغترب يهب الممرضة أدماء التي سهرت عليه وأحبها نصف مليون ليرة، كما يهب أمراء النفط مثل هذا المبلغ بضربة واحدة كبخيل الجاحظ تمامًا.
قد يقول القارئ: أليس من حقي عليك أن تلخص لي هذه المسرحية على الأقل لأفهم ما تقول وأمشي معك على ضوء؟
– على رأسي، يا عزيزي، سألخصها لك بشطحة قلم، فأنا يشغلني الفن عن الموضوع، وقد أعجبت جدًّا برشاد ومسرحيته. الموضوع بسيط جدًّا: مهاجر — سعيد إبراهيم — تنتظر بنت عمه قدومه السعيد لتُزوِّجَه بنتها هالة، الفتاة الجامعية المثقفة. تريد أم هالة أن تقبر الفقر وتصير حماة مليونير.
ويجيء المليونير «راعي البقر» فتَخِفُّ أم هالة وبنتها لملاقاته في المطار، ولكنه يذهب توًّا إلى البقاع كما نذر؛ ليأخذ من تراب ضيعته تنكة ويرشها على قبر أمه في الوطن الثاني، فيتعس به الحظ وتصطدم السيارات في طريقه إلى بعلبك، فينقل إلى المستشفى جريحًا حالته في خطر، ولجهلهم هويته يحمله المستشفى رقم ١٣، ولا شك في أن المؤلف يريد أن ينتقد هذه الخرافة المهجرية … وتبحث أم هالة عن ابن عمها فلا تعرف أين هو، وأخيرًا تهتدي إليه وتتعرف عليه، فيكون قد وقع، بعد أن أفاق من غيبوبته، في شراك الممرضة الجميلة أدماء، فتظل بنتها هالة الجامعية طريدة حبيبها جميل، الموظف في شركة التأمين، وعندما يصح الصحيح تهتف أم هالة بابن عمها وهي يكاد يغمى عليها: يا ويلي عليك! قطعت الحبل فينا. وهنا لا بد من ملاحظة أن حذف الشطر الأول: وصلتينا لنص البير، يدلنا على أرستقراطية رشاد الأدبية، وترفعه عن درك العامية، فهو يريد، كما نريد أيضًا، أن يكون أسلوبه بين بين.
وبعد، فماذا أريتك من هذا التلخيص؟ أريتك العمود الفقري وليس كل الهيكل العظمي، والجمال كله في اللحم والدم؛ أي في التفاصيل، وهذا ما لا أستطيعه. إني أنصحك، إذا أردت ذلك، أن تكتب إلى الأستاذ دارغوث لعلك تحصل على نسخة؛ لأن الخمسمائة نسخة التي طبعت ليست معدة للبيع، أو اكتب إلى شاعرنا الكبير البلبل المهجري الصداح، الأستاذ جورج صيدح، فهي مهداة إليه، وهو رمز المغترب النبيل.
إن قوام المسرحية ثلاثة أشياء: الموضوع والأشخاص والأسلوب، فالموضوع وهو ما رأيت من صميم الواقع، والأشخاص كأنهم أحياء يرزقون تتعرف عليهم في كل مكان من لبناننا السعيد، والأسلوب غير بعيد مما يدور على لساننا. فكل هذه العناصر مما يقع في آذاننا وتحت بصرنا، والحوار، وهو دم المسرحية، طريف ظريف، تهكم كأنه ملبس على لوز مر، وحوادث المسرحية يسيرها تداعي الأفكار فاتصلت أجزاؤها اتصالًا دقيقًا.
السائد في هذه المسرحية هو النقد الاجتماعي؛ ولذلك تومئ من طرف خفي إلى الجامعيين والجامعيات، مقيمين ومغتربين، كما يستدل من محاورة جميل وهالة في الفصل الأول من المسرحية:
هذا في الفصل الأول. أما في الفصل الخامس، وهو الأخير، فيقول رشاد مخبرًا منتقدًا بلسان البطل، يسأله المحقق عن اسمه فيجيب: اسمي سايد إبراهام في أمريكا، وهنا سعيد الإبراهيم. ما اسمك أنت حتى نتعارف؟
فيقول الطبيب: سعادته يوسف بك أبو نبوت المحقق الإداري.
فيجيب سعيد: أنا في أمريكا راعي بقر …
ثم ما أبلغ قول الطبيب وهو يصف جثة القتيل: فالرأس رأس رجل أمي ينطق بالجهل والغباوة، والجثة جثة إنسان تضج مظاهره بالغنى والترف.
ويدور حوار حول كلمة «الجريح المزبور»، ثم يقع الخلاف حول كلمة قضاء وقدر وبإذن الله، ولا يسلم «التحقيق» من قرصات ولدغات، فيقول المحقق أولًا: الحادث وقع قضاء وقدرًا كما أوصى بذلك معالي الوزير، ويقول ثانيًا عند نهاية التحقيق: في فمي ماء. اكتب يا بني ما أمليه عليك، فقد أمرنا بحفظ هذه الأوراق إلى … إشعار آخر.
ولو جئت أدل على مثل هذه النكزات المؤلمة في المسرحية لنقلتها كلها؛ فهي مبنية على النقد من كل لون، ولو كان يلدغ المؤمن من جحر مرتين لقلَّد رشادٌ سعيد بك الإبراهيم وسامًا رفيعًا، لأنه لا يقلُّ أهلية وكفاءة عن سواه، ولكن الملدوغ يخاف من جرة الحبل، فقد كفاه ما جنت عليه إحدى رواياته، وأمرها لم يُنس بعدُ.
وإذا اجتزت هذه المسرحية من بابها إلى محرابها رأيت على جانبي طريقك ما تفيض به قريحة المؤلف من نقدات عابرة تظنها غير مقصودة وهو يعنيها؛ يصب جام سخطه على الجامعات والجامعيين فيقول بلسان هالة: والجامعيون؛ هل لهم حديث غير الحب وإغراء الفتيات؟
فيجيبها جميل: في عهدنا كانت الجامعة أعلى مستوى؛ لأن أساتذتها كانوا علماء منتجين، وأدباء موهوبين، ومفكرين أحرارًا.
فترد هالة: أما في عهدنا، فالجامعة صارت تساوي غيرها من المؤسسات التجارية، وأساتذتها مثل سائر المعلمين؛ لا رسالة ولا إنتاج.
والمليح في الأستاذ دارغوث أن شخصيته لا تظهر أبدًا، ولا يفرض على شخوصه ملامحه وأفكاره فرضًا أبلق، ولكنه يفعل ذلك من بعيد؛ فمسرحيته «سيعودون» رواية عصرية من صميم الواقع، بل هي خبزنا اليومي، تقع أعيننا على مشاهدها كل ساعة في البيوت، وعلى الميناء، وفي المطار، فلبنان يودع كثيرًا ويستقبل قليلًا، وإن استقبل من بنيه أحدًا، فكما قال الشاعر العتيق: كان تسليمه علي وداعًا.
لقد اقترب رشاد من الحياة أكثر من مسرحيينا، ودنا من البساطة التي هي عنصر الفن المسرحي الرفيع أكثر وأكثر، وقد كان في الإمكان أن يكون الحوار أكثر بساطة لو تنازل رشاد قليلًا عن أرستقراطية الأسلوب، وتقديسه للعبارة القديمة وهربه من الدخيل فيقول: غطاء رأسه بدلًا من قبعته. يدلك على هذا اعتذاره في المقدمة، فلا عجب إذن إذا اصطبغت هذه القصة الحوارية بالطابع الإقليمي وإن كانت إنسانية النزعة.
ليت شعري هل كتب موليير وموبسان وجميع كتاب الروس غير قصص إقليمية؟ إن الإقليمية والإنسانية ليستا كالخراسانية والهمذانية لا تجتمعان كما قال بديع الزمان في رده على كتاب أستاذه أحمد بن فارس.
لا نبحث الوحدات الثلاث التي كانت معبودة الفنانين القدماء، فتلك قيم ولَّت مع ما ولى من المقاييس الكلاسيكية. يكفينا من أديبنا الفنان الملهم هذه القيم الأدبية والأخلاقية؛ فمجتمعنا أحوج ما يكون إلى كاتب كبير ينتقده هذا النقد الصارم المضحك المبكي بمثل هذه الصور الحية التي لا تعمُّل فيها.
أما العقدة فهي عصرية، إنها أنشوطة تحل بسهولة، وكذلك ابتداء المسرحية. الكاتب خباز، وكما يسهر الفران الحاذق على ما يصدر للناس فيبعد الأرغفة المحروقة والمشعوثة، كذلك يفعل أديب كرشاد دارغوث. إن ذوق الجمهور قد ارتقى؛ فعلينا أن لا نقدم له حجارة فنية، بل رغيفًا سخنًا رافخًا شهيًّا. إننا نحتاج إلى الكاتب كما نحتاج إلى الخباز «الأسطى» الأستاذ، فعند الاثنين غذاء لا بد لنا منه.
قد تعودت أن أناقش التقديم أولًا؛ ولذلك أراني مُضطرًّا أن أناقش الأستاذ فريد مدور نقاشًا عابرًا مثل درس نوابنا للمشاريع التي لا خبز لهم فيها، فالأستاذ مدور كاتب مسرحي موفق، وله الحق أن يبدي رأيه لأنه خبير فني في هذا النوع. قال الأستاذ في تقديمه لهذه المسرحية: ولن يكون المؤلف ناقدًا ولا الناقد مؤلفًا، وأنا أرى أن الاثنين يكونان، فإذا لم يكن المؤلف ناقدًا فمن ينقي له ما يكتب من الزؤان؟ هل يستأجر من ينقي ويغربل له كما نفعل بالقمح قبل طحنه؟ أما بقية آراء المدور في الإخراج والتمثيل والمسرح والنظارة فوجيهة جدًّا، وعليها يتوقف نجاح المسرحية؛ لأنها تُكتَب لتُمثَّل لا لتُقرَأ.
فالأستاذ دارغوث يحتاج إلى مشاهد لبيب يفهم من الإشارة؛ لأنه لا يكتب بالقلم العريض كما نقول، ولهذا إني أتمنى لهذه المسرحية جمهورًا فاهمًا لا من الذين يطربهم الغناء الرخيص والطعن والضرب والقتل، والقبلات التي تستمد لحنها من مفرقعات الأعياد، ولا مطارحات الغرام المبتذلة.
إن الأستاذ يقسو على المجتمع باشمئزاز مُبطَّن بدبلوماسية المحيط الذي يعيش فيه، ويفرض عليه النعومة، ولو كان غير موظف لأرانا غير ما أرانا، ولكن حسبه أنه الأديب الذي لم تلهه وظيفته عمَّا خُلق له، ولا خوف على الراغب من انتقاص ملكته؛ فإن طال الزمن أو قصر فلا بد أننا في النهاية نعطي ما عندنا. إنك إذا فتشت في رشاد عن فصاحة وبلاغة؛ فإنك تجد رجلًا قبل كل شيء، رجلًا فنيًّا مطبوعًا يلبس الحقائق ثوبًا منمنمًا. إن العلم كالحساب جفافًا فنيًّا، أما الفن فهو علم من نوع آخر، تقبله على أنه فن، وهو في الحقيقة علم، ولكنه بسام ضاحك كما هو عند رشاد. إن العلم لا يتمتع به إلا نفر قليل تمتعًا منقوصًا. أما الفن فيتمتع به الناس تمتعًا كاملًا غير منقوص.
كنت أحب أن يكون ختام المسرحية أزخم، فيزود رشاد النظارة بشيء يبقى لهم ليأتوه بالأخبار كما قال طرفة.
أشهد أنني بعد عشرين عامًا؛ أي منذ أصدر رشاد خطيئة الشيخ، قد رأيته في «سيعودون» كما هو في تلك من حيث النضال الاجتماعي، وهذا يدلنا على عقيدة رشاد الراسخة ومحاولته الإصلاح، وهذا ما جعلني أترجى لآثاره النفيسة عمرًا طويلًا.