نداء الأعماق
عندما قرأت عنوان «نداء الأعماق»، للشاعر عبد الخالق فريد، تداعت الأفكار وتذكرت المزمور المائة والثلاثين الذي لا أزال أعرفه، وكيف أنساه وأجراس الكنائس تقرع في السهرة بضع ضربات داعية الموارنة لتلاوة «من الأعماق صرخت إليك يا رب.» تخفيفًا لعذاب الأنفس المعذبة في المطهر؟ وما أقرب الشبه بين المطهر الكائن في قلب كل شاب، والمطهر الذي لا نعلم أين هو كائن.
ولم يخب ظني حين تصفحت الديوان؛ فقد رأيت بعض قصائده متوجة بآيات سليمانية فقلت: لقد جمع عبد الخالق فريد نزوات داود وابنه سليمان، ولكنَّه بكَّر في التشاؤم.
فمن الرسم الذي زين به الشاعر ديوانه يبدو لي أنه في عز الشباب، وحيث إنه صدَّر ديوانه الصغير بقصيدة «ليلة نواسية»، فمن بضاعة أبي نواس نستعير تبرئة نوجهها إلى عبد الخالق فريد، قال النواسي، غفر الله له:
فلو كنت ممن تبهرهم الكلمات الجديدة لقلت: إن صاحبنا عبد الخالق شاعر وجودي بوهيمي، وها هو تائه في ليالي بغداد، فيرى بدربه حانة، وعلى بابها نديم جميل:
ويطيع الشاعر ويلبي، ويذهب مسرعًا بصاحبه وهو خائف من أن تحل بالكون نكبة سادومية ثانية وتفلت الطريدة من مخالبه، ثم يذهب السكر بالألباب فيقول الشاعر بلسان ذلك الرشاء الأغن كما قال النواس من قبل:
فهو يلثغ بالراء وقد استحالت غينًا كما لا يخفى على القارئ اللبيب. وفي آخر الديوان يعود الشاعر إلى هذا الحبيب «الألثغ» فيذكرنا استملاح الجاحظ اللثغة الظريفة. وفي هذه القصيدة التي عنوانها «حانة الذكريات» يباهي الشاعر ويبتهر مفتخرًا بنواسيته وشذوذه:
وعلى ذكر هذا الحب العارم نقول للشاعر عبد الخالق فريد ما قاله أبو نواس للأمين:
ولكن بشرط أن يستعمله على حقه فلا يزرع حيث لا يحصد!
أما ما قاله الأستاذ عبد القادر رشيد الناصري في شاعر نداء الأعماق في المقدمة التي جعلت ذيلًا، فأرى أنه غالى في امتداح فصاحة لهجة عبد الخالق فريد وطابعها، كما أنني لا أوافقه على تسمية هذا الشعر الإباحي لغة الروح، فإذا كان هذا الشعر لغة الروح، فكيف تكون لغة الجسد يا ترى؟
لقد شبه قصائد «نداء الأعماق» بغزليات ابن أبي ربيعة، وغزليات عمر هذا لا تعرف حرفًا من لغة الروح، فهو كما قلنا عنه مرة: إنه كالقصابين تعنيه الأَلْية أكثر ما يعنيه اللسان، ولا يفهم المرأة إلا جسدًا جميلًا بضًّا.
ولا أدري لماذا لا يكون الناصري صريحًا؛ فالشاعر حدثنا عن السادومية لا عن الخمرة، فأي مبرر لذكر خمريات النواسي والشاعر عبد الخالق فريد يبحث معصيته بصراحة وقحة، ولم يستتر كما أُمِر، ولا تأويل في مورد النص.
وبعد، فلست أرى في هذه الموضوعات التي عالجها شاعر «نداء الأعماق» تجديدًا، فهي نواسية صريحة، ولا أحسب تجديد أبي شبكة من مثل هذه حتى يذكره الناصري في هذا المضيق، ولعلي لست أظلم أحدًا إذا قلت: إننا لا نزال بعيدين عن التجديد، وما برحنا غارقين إلى الآذان في التقليد. فشاعرنا واحد من اثنين، إما ملتفت إلى الغرب، وإما متطلع إلى الوراء يريد أن يطبع على غرار من تقدموه. أما تطلعنا إلى نفوسنا الذي يمكننا من خلق الجديد، إذا كنا مُلهمين، فهذا لا نعيره اهتمامًا؛ ولهذا أرى جمهرة كتابنا وشعرائنا يريدون أن يكون لهم جديد، ولكنهم لا يعثرون عليه لأنهم يفتشون عنه في غير زمانهم وذواتهم.
قد يكون دم القلب خمرة الأقلام كما قال أبو شبكة، ولكن الشعر ليس عاطفة فقط، بل ليس عاطفة الطوطم والتابو وحدها، فهناك شئون وشجون يجب أن يعالجها الشباب، وإلا صار شعرهم نغمة واحدة، وليعذرني السيد عبد الخالق فريد إذا قلت له: إن عاطفته مكشوفة العورة، ولو كان في العورات المكشوفة جمال لما تكلف الناس لبس الديباج والشفوف، ولما كان للخياط البارع رغيف خبز في معجن الحسان. إننا نطلب من الشاعر ولو نقابًا شفافًا حتى نقول مع صاحب سفر الجامعة: ها أنت جميلة يا حبيبتي، عيناك كحمامتين من تحت نقابك.
أما الهنات التي أشار إليها الأستاذ الناصري، فهي هنات نجدها عند أكثر شعراء هذا الزمان، ولكنها غير هينات، كما قال القدماء، وإذا عنفتهم هزئوا وأجابوك بقول الغريري الذي ختم به نقاشه: إن الشعر والأدب الذي يحمل عنصر الخلود يعيش حتى إذا كان ثرثرة بالمعنى اللغوي وغير اللغوي.
لا، لا أرضى. فإذا كنا نريد أن نحافظ على كياننا يجب أن نحافظ على أصول لغتنا حتى تأتي الساعة التي نستبدل بها قاعدة بقاعدة، أما الفوضى فما تبشرنا بخير.