حول البياتي والسياب
حين تلقيت العدد ٥٨٣ من جريدة الحرية العراقية الصادر بتاريخ ١٦ نوار الماضي كنت محبوسًا «قلعة بند»، كما كنا نعبر في العهد التركي؛ أي إنني كنت مقيدًا بسلاسل «ريجيم» ثقيلة. وحسبك من الريجيم ضغطًا دونه ضغط الدم ثقلًا أن يكون العمل محظورًا عليك حتى يتبادر إلى ذهنك أن كلمة ريجيم مشتقة من الرجيم. ونعوذ بالله منه.
والآن وقد أُخلي سبيل السجين، فيطيب لي أن أتحدث هنيهة إلى السيد عبد الوهاب الغريري، قال الغريري في مقال عنوانه «مارون عبود والشعر العراقي الحديث»: ومن يقرأ مقال الأستاذ مارون يعتقد بأن الرجل لا يعرف من العراق إلا شاعرًا واحدًا يعتبره المجدد في الشعر، وأن الشعر العربي في العراق يسير على نهجه. وهذا الشاعر هو البياتي.
لا يا عزيزي عبد الوهاب! عجبًا كيف أريكم السهى وتروني القمر؟ فلو كنت قرأت غير جزء من مقال لعرفت أنني غير راض جدًّا عن شعر سميِّك عبد الوهاب البياتي الذي يقلد فيه إليوت شاعر أمريكا المعاصر، فجاء معظم قصائد «أباريقه المهشمة» أشبه بصراخ المنادين في زواريب الأحياء: شروال عتيق للبيع إلخ.
فإذا قلت للشاعر يوسف نمر ذياب: إن خطيئة الإليوتيين عندكم وخطيئتك أنت في رقبة الشاعر البياتي، فلا يعني هذا أنني فضلته على الشاعر بدر شاكر السياب، ولا زعَّمته على شعراء العراق، كما أنني أحتج بشدة وإصرار على قولك: إنني لا أعرف إلا شاعرًا عراقيًّا واحدًا هو البياتي.
قد تعجب إذا قلت لك: إنني عرفت شعراء العراق جميعًا إلا البياتي، وما نقدت شعره إلا «عرضًا»، ومن خلال دراسة جيدة للدكتور الأستاذ إحسان عباس وقعت في آخرها على نماذج بياتية.
فإذا رجعت إلى كتبي رأيت أنني عرفت جميع شعراء العراق من الزهاوي إلى الشبيبي، إلى الشعراء المعاصرين قاطبة: من نازك الملائكة إلى مقبولة الحلي. ويكفيني معرفة بشعراء جميع البلاد العربية، وخصوصًا العراق، أنني كنت ناقدًا للشعر والنثر في محطة الشرق الأدنى مدة ثلاث سنوات ونصف، وفي كل أسبوعين كان يذاع لي مقال ثم ينشر في مجلة المحطة النصف شهرية، فأقول، ولا فخر: إنني عرَّفت قراء العربية في جميع الأقطار بشعراء العراق قدماء وجددًا، وما عليك إلا أن تطلع على كتبي: على المحك، مجددون ومجترون، دمقس وأرجوان، وفي المختبر، وجدد وقدماء، وعلى الطائر؛ لترى أنني أول من تنبَّه إلى هذا الفيض الشعري الغزير عندكم الذي يرمي أواذيَّه العبرين بالزبد.
أنا يا عزيزي ممن لا تخدعهم الشهرة، ولا تقعدهم عن النظر فيما قيل لا فيما يقال، فلو قرأت ما كتبته عن شاعركم الفحل محمد الجواهري حين حمل إلى لبنان عقودًا من الخرز، لما اتهمتني بمعرفة البياتي لشهرته في البلاد العربية وتغاضي عن شعر شاعركم الملهم حقًّا بدر شاكر السياب، ثم رحت تعد لي دواوينه: «أساطير» و«الأسلحة لأطفال» و«المومس العمياء»، ونسيت أن تذكر ديوانه «أزهار ذابلة» الذي تفضل عليَّ به بتاريخ ٢٦ / ٤ / ٤٨. وهكذا أكون عرفته، وقلت فيه، ولم أتحفظ كصديقي المرحوم رفائيل بطي: إنه سيكون شاعر جيله المجدد، ونصيرًا للمضطهدين «من كل إس وجنس.» كما قال البحتري.
وإذا وقعت عينك على الصفحة ١٩٣ من كتابي دمقس وأرجوان تقرأ ما يلي: وفي العراق ثورة فكرية عارمة تبشر بطوفان ينزل منها العصم من كل منزل، فأكثر شعر شعرائه نضالي كفاحي، وتقول أنت عن شعر السياب: ولكن ربما لم يتهيأ لهذا الشعر أن ينتشر في البلاد العربية كي يقف الأستاذ مارون على قدميه وهو يقرؤه.
قلت لك: إنني في عداد المعجبين بشعر السياب وخياله وتعبيره وتفكيره وانتصاره للإنسانية بيضاء وسوداء، طاهرة وعاهرة، وهو أقرب شعراء الرافدين إلى النهج الإليوتي الذي يستهوي شبابكم اليوم، كما استهوى شبابنا شعر فرلين وسامان ومالرمه فيما مضى. أما وقوفي على قدمي — وأظن أنني لا أقف على رأسي — حين أقرأ شعر السياب؛ فأرجو أن تعفيني من ذلك الوقوف لأنني لا أستطيع الانتصاب طويلًا الآن، ولا أتأخر عن ذلك متى قدرت، بل على أكثر من ذلك؛ أي الركوع والسجود وسائر ما يفرض على عُبَّاد الأدب من نوافل.
وأخيرًا، إنك «تطمئنني على بقاء الشعر العربي عربيًّا» وهو يسير في طريق التجديد، والذي يجب أن نتذكره دائمًا أن الشعر والأدب الذي يحمل عنصر الخلود يعيش إذا كان ثرثرة بالمعنى اللغوي وغير اللغوي.
الجواب: هذا هو مرض هذا الزمان، وهو أشد انتشارًا عند الشباب حيث كانوا؛ لأنهم يريدون أن لا يفكروا. وللتسهيل والتيسير: تمخض الجبل فولد فأرة. كتب طه حسين: «على» علا، و«إلى» إلا، و«متى» متا، حتى لم ندر ما يصيب متَّى وعيسى. فإلى الذي لا يقدر على غير الثرثرة أقول: عندك الموَّال البغدادي، والمعنَّى والقرادي اللبنانيان وهلم جرًّا.
إن شبابنا لأهون بالطوطم والتابو والنرجسية وغير ذلك من أسماء حديثة، وهي لا تدل إلا على معانٍ قديمة، فهذا التجديد الزيف لا يبرر ثورتنا على ميراثنا القديم. لقد عرف الأولون شريعة الفحل، وكانوا كلهم فحولًا، ولكنهم لم يسموها طوطمًا وتابو، كما عرفوا أقصى الإعجاب بالنفس عند المتنبي وإن لم يعبروا عن ذلك بالنرجسية.
وإنني أرجو أن أكون ذكَّرت الأستاذ الغريري برأيي في الشعر العراقي لا أعدت النظر فيه، فأنا معجب بشعرهم حتى النرجسية! فقد كان للعراق آراء في الحياة لعل سارتر صديق الشباب الحائر لم يصل إلى أبعد منها، كما أن الخطيئة الأصلية في المسيحية هي الطوطم الأكبر. إن الأعراض تتغير، أما الجواهر فتظل هي هي وإن حملت أسماء جديدة.