ثورة في الصحافة
حين نتحدث عن مثل كتاب «ثورة في الصحافة» نضع مقاييسنا الأدبية جانبًا، فمثل هذا الكتاب يصلح دستورًا للصحافة التي تريد أن تتحرر من عبودية التقليد، فمصطفى أمين وتوءمه عليٌّ مبدعان ومجددان. كانا تلميذي روز اليوسف، ثم صار لهما تلاميذ في كل مكان. كنا نتعجب من النجاح العظيم الذي تحرزه الصحف العالمية، وكنا نظن أن ظهور الأبطال الذين يرفعون أمتهم إلى الأعالي أمسى نادرًا، وكنا نتحدث عن فولتير وروسو اللذين مهدا الطريق للثورة الفرنسية، وكنا نستغرب أن يفعل القلم ما فعل على يد هذين الفيلسوفين، حتى قام التوءمان مصطفى وعلي أمين بما قاما به من انقلاب دك عرشًا ظل ثابت الأساس قرنًا ونصف قرن.
أجل، ما دامت النساء تحبل وتلد فلا بد من انتظار المفاجآت في محصول جديد من نوابغ الرجال العصاميين العباقرة، وشكرًا للأستاذ سامي عزيز الذي أهدى إلي هذا الكتاب «ثورة في الصحافة»، فأيقنت أن الصحافة صاحبة جلالة، ولكن بدون تاج؛ لأنها هي التي تريح الدنيا من أولياء العهد الذين هم بلية الشعوب؛ أما دكت ولاية العهد أساس الإمبراطورية العربية؟ وهل ثورة الشاعر دعبل الخزاعي على الخلفاء العباسيين دون ثورة مصطفى وعلي أمين على فاروق؟ قال دعبل:
أما ما قاله التوءمان فهو يقع في مجلد من القطع الكبير عدد صفحاته ٤٢٦. لقد عرفني كتاب ثورة في الصحافة بتاريخ الحقبة المعاصرة من تاريخ مصر المحروسة، وقد كذَّب التوءمان أبا الطيب المتنبي القائل:
فهذان الناطوران قد طردا الثعالب من كرم مصر، وقالا للشعب المصري: أنت أحق بكرمك، فهلمَّ احكمه واقطف، هلمَّ أطعم وكل.
يظهر لي مما قرأت، ولا أعدو الحق إذا قلت: إن لمصطفى أمين اليد الفرَّاسة في تحرير مصر؛ فهو مضرم نار ثورتها، وهو موصلها إلى ما أدركت؛ فللأستاذ سامي عزيز كل الحق أن يطلق مثل هذا الكتاب الصاروخي ليقطع الطريق على المُدَّعين ويسد أفواههم. أما تعوَّدنا فور كل انقلاب أن نرى في مصف رجال الثورات مَن كانوا حربًا عليهم؟ وليس هذا الكتاب إلا ثورة، ليس في الصحافة فقط، بل في تاريخ مصر، فأدت إلى تحرير ذاك القطر الذي استعبده الجشع والاستخفاف بالشعب. والبادي لي أن الانقلاب المصري هو تاريخ جهاد مصطفى أمين وأخيه، وهذا يثبت لنا أن اليد الأولى في الانقلابات هي يد القلم، فهو يمهد الطريق ويُعبِّدها لأصحاب النجاد الطويل، فيقطع العقدة سيفهم كما فعل الإسكندر.
أنا معجب جدًّا بهذا الرجل المفلح، ولو كان أديبًا لكنت أولى الناس بإخراج كتاب ضافي الذيول عن هذا العملاق، ولكني لا أحسن لغة الأرقام والتواريخ التي تذكرني بأقصوصة كتبها مارك عن الفرنسيين. وهذا ما رأيته كثيرًا في كتاب ثورة في الصحافة.
إن الصحافة العربية مدعوة إلى أن تفعل كما فعلت أخبار اليوم، جريدة مصطفى أمين، فالمجال أمامها واسع؛ فكل قطر من أقطارنا ينتظر من ينهضه، ويحقق كما تحقق دار أخبار اليوم عن الأعمال والصفقات التي كان يقوم بها وزراء عهد فاروق.
قبل أن يصدر التوءمان صحفهما ومجلاتهما كانت ساحة نضال مصطفى أمين في مجلة الاثنين وجريدة الأهرام، ثم كانت الجبهة في دار أخبار اليوم ترسانة الحرية والاستقلال الناجز.
ظل السبق الصحفي للشوام حتى ظهرت هذه الصحف التي نشأ صاحبها من لا شيء، كان كما كان إخواننا اللبنانيون حين جلوا إلى الكنانة وما في كنانتهم هم غير سهام المعرفة والثقافة الحديثة.
قلت: نشأ صاحبها من لا شيء مع أن هذا الكتاب يذكر لنا أن والده كان عضوًا في مجلس الشيوخ، ولكني أظن أنه كان شيخ فضيلة وأخلاق، لا شيخ عزبات وألوف الفدادين من الأطيان.
لست أعرف السيد مصطفى لأصفه، ولم أر له وجهًا إلا في الصياد والشبكة، ولعل الصياد أخو رأسه في الجرأة واللذعة غير الموجعة. الصورة الفوتغرافية لا تشفي لي غليلًا؛ ولذلك قرأت هذا الكتاب ولم أخرم منه حرفًا، فرأيت فيه دنيا تتحرك وعوالم تموج بين السطور. وكم سررت حين وقعت على جهاد تلميذي السيد ناصر الدين النشاشيبي وفلاحه! وحين قرأت أسماء وأسماء ممن عرفتهم! وما أشد ما كانت غبطتي إذ عثرت على صورة قلمية لمصطفى أمين — رسمتها له روز اليوسف في مجلتها الشهيرة التي تعد بحق مدرسة جديدة في صحافة اليوم! قالت السيدة روز تصف الشباب الذين كانوا يأتون إلى المجلة: «ففي هؤلاء الشباب نظرة لا تخطئ أتبين منها على الفور من لديه الاستعداد للنجاح، ومن هو غير أهل له، وقد لفت نظري من المترددين شاب طويل ضخم بشكل ملفت، عيناه صغيرتان لامعتان تتحركان بسرعة عجيبة كأنهما تبحثان عن شيء صالح للالتقاط. وكان هذا الشاب يدخل المجلة متلفتًا هنا وهناك وهو يسرع الخطى إلى حجرة الأستاذ التابعي يدفع إليه بعض الأخبار ثم يمضي … وكان يراني في بعض الأحيان وهو خارج فيُنكِّس رأسه ولا يحييني، ولمحت فيه بوادر هذا الاستعداد فسألته وهو خارج في إحدى المرات: ما اسمك؟
فقال: مصطفى أمين.
ثم عرفت أنه تلميذ في المدارس يهرب من مدرسته ليتصيد الأخبار ويحملها إلى المجلة، ويملك سيارة صغيرة جدًّا، عتيقة جدًّا، يستعملها في الجري وراء الأخبار. وهو منذ اللحظة الأولى يحلم بامتلاك دار صحفية كبيرة ويعمل لذلك. كان مألوفًا منه أن يسافر بسيارته سفرًا بعيدًا لكي يحصل على خبر ويعود به في نفس اليوم.
وعلي أمين هو النصف الثاني لمصطفى الذي لا ينفصل عنه، فلم يكد مصطفى يشق طريقه قليلًا ويصبح له مكانه في المجلة حتى أشرك معه عليًّا.
كان مصطفى أمين أكثر هؤلاء الشباب نشاطًا، وكان تفوقه عليهم ظاهرًا، وقد قضوا سنوات طويلة يعملون بغير أجر، وبعد سنوات ثلاث جعلت لمصطفى مرتبًا ثماني جنيهات شهريًّا، على أن يدخل فيه شقيقه علي الذي كان يعمل معه في الباطن.»
إن نشأة مصطفى أمين هذه حملتني على تسميته بالعبقري، والجبار، والعملاق، لا جسمه الجميزي الذي يذكره الأستاذ سعيد فريحة كلما سنحت الفرصة.
كان الرأي العام في مصر شعبية رخيصة، ولكن صحف مصطفى أمين أيقظته من غفلته، فلم يعد الشعب يساق سوقًا. لقد خلق من «ابن البلد» الذي كان محتقرًا رجلًا إذا دعي إلى الجُلَّى كان من حُماتها، وقد خلق ابتكاره شخوصًا مثل حمار أفندي وغيره، وكان لهم العمل الأول في إيقاظ الأمة المصرية التي قال فيها أبو الطيب ما قال، كأنه تنبأ بشخصية مصطفى أمين حين كتب:
فهذه الرسوم التي أبدع شخوصها مصطفى أمين مضحكة مبكية حين تحكي، ومضحكة مبكية حين تتنادر، ولعل السخر اللاذع والتهكم المر والصراحة التي ترمي فتصمي هي أولى خصائص مصطفى أمين التي لا تعد ولا تحصى، فهو في الأدب السياسي زعيم أي زعيم.
اسمع قوله: هناك حرية في الدستور واستعباد في الواقع، صحف مقيدة، وانتخابات مزيفة، حكام طغاة، ورأسمالية فاحشة، رشوة منتشرة، واستغلال نفوذ واسع النطاق، وحكم إقطاعي لا مثيل له.
ويقول في الحاكم: ليس الحاكم مسئولًا عن شخصه وحده، وإنما هو مسئول كذلك عن كل من حوله … فإن المناصب الكبرى التي تعطي أصحابها حقوقًا ضخمة تلزمهم بواجبات أضخم، وليس هذا الكلام موجهًا إلى حكومة بذاتها، بل هو موجه إلى كل حكومة؛ لأن سمعة الحكم المصري هي أساس الاستقرار.
لا تكتفوا بالدستور؛ لأنه كلمات تفقد معانيها إذا لم تجد من يفهمها ويهضمها ويمزجها بدمه وقلبه. يجب أن يحدد الدستور سلطات رئيس الدولة، ويمنع الوزراء من ترقية أقاربهم، ويحاسب الوزراء على ثرواتهم، ويمنع أعضاء البرلمان من الاتجار بالنفوذ والسمسرة والتذبذب.
أما رأيه في الصحافة فيقول: فليست الصحافة أن يكون أصحاب الصحف أحرارًا فيما ينشرون، وإنما الحرية أن يكون لكل كاتب في الصحيفة الحرية في أن يكتب ما يعتقد. وهذا سر قوة أخبار اليوم.
أما الأستاذ علي أمين، فقد أعجبني منه هذا الرأي الممتاز، فقد ثار على الشعب الثائر على تماثيل الأسرة العلوية وهاجمها في جميع الميادين، فقال علي أمين في حملته على المحطمين الهدامين: إن شعار الحكومة يجب أن يكون البناء لا الهدم، وإن إلغاء الملكية لا يعني إلغاء التاريخ، وإن ثورات أخرى قامت في بلاد أخرى فلم تحطم تماثيل الملوك، ولو أن آثار الطغاة دمرت لما بقيت الأهرام التي بناها الطغاة والمستبدون.
ذكرني رأي علي هذا برأي الجاحظ الأديب الأكبر حين ذكر هدم الآثار ليدلل على بقاء الكتاب وفناء الآثار فقال: من شأن الملوك أن يطمسوا على آثار من قبلهم، فقد هدموا، لذلك السبب، المدن وأكثر الحصون، كذلك كانوا أيام العجم وأيام الجاهلية، وعلى ذلك هم في أيام الإسلام.
وكأني بهذين الرجلين مصطفى وعلي أمين يمشيان وحدهما على أرض ثابتة لا تهتز تحت أقدامهما، فهما واثقان من أنهما خلقا مصر الجديدة.
من عادة التوءمين أن يكون أحدهما دون الآخر جبروتًا، أما هذان فهما متساويان.
وهذا الكتاب «ثورة في الصحافة» جاء يعرفنا بهما، ولكن على طريقة بولس الرسول في رسالته الثانية إلى أهل كرنتس. عرفتنا تلك الرسالة بفضل بولس الرسول على زملائه، وعرفنا هذا الكتاب بفضل التوءمين على مصر والبلاد العربية.
وأخيرًا نقول: وإذا كانت الصحيفة مدرسة، فدار أخبار اليوم جامعة من أرقى الجامعات الحديثة، فلله درُّ أبٍ جاء بنابغتين في صفقة واحدة، وكانت رابحة جدًّا.