أغاني الغابة
في العراق اليوم ثورة فكرية عارمة تناهض كل قديم حتى الشعر، ولا عجب فالعراق كان بؤرة الثورات وعاصمة مملكة الأدب العربي في الأمس البعيد، فماشى فيها الشعر الحياة مع بشار وأبي نواس وشركاه، ومن سماء العراق طلع علينا مذنب هالي الأدبي — المتنبي — فخاض غمار الصحاري، ثم عاد إلى مستقره ليستريح تحت السماء التي أطلعته.
وفي الأمس القريب جدد الشعر فيه شباب قديمه، واليوم يقفز العراق قفزة رائعة فيطلع علينا منه شعراء متمردون يعنيهم أن يلجوا صميم قلب الحياة، وما كان أحلاهم لولا طفرتهم! ولعل وباء الغموض الذي يحتاج إلى منجم قد سرى إلى العراق من لبنان، الثغر المفتوح ولا محجر صحي فيه.
أمامي الآن ديوان أغاني الغابة لموسى النقدي، وهو شعر حر، وأنا أحب الحرية وأقدسها في كل موقف ما عدا الشعر؛ فالشعر موسيقى أولًا، والرنة الموسيقية بعيدة عن الشعر الحر، فليت أصحابنا الشباب يعتبرون بالريحاني وجبران، فكل هذه التصاوير التي يتعب في خلقها شعراء اليوم ستذوي وتيبس عند المساء؛ لأن موضوعها زائل والعنصر الفني فيها ضعيف. إنها صور شمسية سيأكلها العث إن طال عليها سالف الأمد. أما الشعر الموقع المحصور ضمن إطار الوزن فكالصورة الزيتية التي تجود كلما مرت القرون. هذا إذا كان الموزون شعرًا لا تعبئة أكياس تشحن إلى أقطار المسكونة. أجل، سوف لا يبقى إلا الفكر اللابس حلة الفن.
أما ديوان النقدي فإن خلا من الوزن المألوف فهو لم يعدم الإيقاع. حاول صاحبه أن يأتينا بجديد، فقال في «ذات العيون المقمرة»:
فإذا كان شعراء اليوم يؤمنون بالإيحاء، فأنا أحلف ألف يمين أن ثوب صاحبة النقدي لم يوحِ إلي بشيء، اللهم إلا حكاية نائب فرنسي مر على مزارعين فشاء أن يتنادر عليهم فقال لهم: ازرعوا، وغدًا نحن نأكل، فأجابه خبيث منهم: ولكننا نزرع شعيرًا.
إن هذه الصورة يا موسى لا ذوق فيها، وإني أخاف على هذا الحقل أن يرعاه أصحابه الذين هم أولى به. أما «والأنف قنديل صغير» فأرفع رتبة من حقل الشعير، ولكن ما زالت العيون مقمرة، فأي داع لتعليق هذا القنديل؟ وأما قصيدة الغابة ففيها شعر، وفيها فكر، وفيها ثورة، ولكن رائعة الديوان هي قصيدة «النخلة»، والنخلة بنت العراق وحبيبة قلبه، قال في مطلعها وختامها:
أما موت كيوبيد، رحمه الله وأعاضنا بطول بقاء المحبين، فموضوعٌ عمَّ حتى خمَّ، وإن «أغفى كيوبيد كالمسيح، وكالطفل الذبيح مات ولم يملك من الأرض سوى علبة حب. هي قلب، أي قلب.»
أجل لم يطلب المسيح من الإنسان إلا قلبه، ولكن صاحبنا النقدي سلبه بدلًا من أن يعطيه، سلبه تشبيهه الموت باللص فقال: الموت في الليل كلص يدخل البيوت.
وفي آخر هذا الديوان الصغير يعود النقدي إلى القرية ليقول فيها قصيدة هذا أجمل ما فيها:
وقى الله شعراءنا الطالعين شر اجترار القشور، وإني أبشرك بالخير يا موسى؛ فاضرب بعصاك بحور القريض ففيها الدرُّ لمن غاص.