زيارة إيران
استحق هذا الشاعر الأعظم شكر لبنان قبل أن أوجدنا وسام الاستحقاق بألف ومائة سنة، فهل نمنحه إياه بمناسبة زيارة فخامة الرئيس اللبناني لبلاد الشاهنشاه؟
وإذا كان أنشئ الوسام الزراعي، فهل نمنحه إياه أيضًا إذا كان ضرب؟ فهو أول من دعا لتفاحنا الطيب الجميل منذ أجيال، فذكره منوهًا به في أول قصيدة مدح بها عضد الدولة، شاهنشاه بلاد فارس، قال في معرض الغزل على عادة ذلك الزمان:
أرأيت كم تعذب ذلك المسكين حتى رصع بيته الأخير بأسماء الملك وألقابه؟ وكأنه شعر ببلادة البيت الأخير وتفاهته الشعرية فأتبعه بهذا البيت تبرئة لذمته الفنية:
وإخال أبا الطيب لو كان في عصر الطائرات لحمل إلى شاه ذلك الزمان سلة من تفاح لبنان واستغنى عن الشعر بقوله: ما راءٍ كمن سمع.
لقد أصاب فخامة الرئيس عصفورين بحجر واحد، فحمل هدية التفاح النفيسة، والهدية واجبة على كل زائر، وقد أحسن اختيارها؛ لأنها جاءت دليلًا لا يفوقه دليل على محبة فخامته لزراعة بلاده.
وهناك هدية أخرى أطراها ابن الرومي مدحًا فقال:
فهاتان الهديتان تدلان على ذوق صاحب الفخامة، فأطرف الهدايا ما كان منقطع النظير مثل تفاحنا وموزنا.
دائرة المعارف الفرامية
ولم تقف طرافة هدايا رئيس البلاد عند هذا الحد، فأضاف إلى الهدايا الغذائية هدية تغذي العقل، فحمل هدية ثقافية هي موسوعة العالم العلَّامة والحبر البحر الفهَّامة الجهبذ الفذ فؤاد أفرام البستاني، رئيس الجامعة اللبنانية. ولا تستغرب هذه الهدية من العرب إلى العجم، فهي كتاب لم يعمل أحد مثله بعد، وقد تفردنا به في فجر عصر النهضة، ولا شك في أنه سيدهش الغرب والشرق بإطلالته الميمونة الطالع، وسوف تنقض علماء المسكونة على ترجمته إلى لغاتهم؛ لأنهم سيقعون فيه على عجائب غرائب لم يحلموا بها.
لا شك في أن الموسوعة الفرامية ستزيد في بناء صرح الثقافة العالمية مدماكًا دون المدماك الأساسي في قلعة بعلبك!
وبعد، أليست أجمل هدية يحملها رئيس جمهورية مسقط رأس الحرف هي هذا الكتاب الذي فيه أكثر من مليون حرف؟ وسوف يصير هذا المليون عشرات الملايين، فالحبل على الجرار ما دام في بنود الميزانية اللبنانية مغرز إبرة للفصد؛ فعلَّامتنا المفرد الأستاذ فؤاد يأتيه رزقه رغدًا، ولماذا لا يخرج من بحر ذهنه المتوقد دررًا يتيمة لم يحوِ مثلها مهراجا؟
تعويض تمثيل
جاءني واحد قرأ المرسوم التالي: أُعطِي رئيس الجامعة اللبنانية، الأستاذ فؤاد أفرام، تعويض تمثيل شهري قدره ٢٠٠ ليرة لبنانية، فقال لي: هذه نهضة جميلة نتفرد بها، وقديمًا كنا نحن أول من عني بفن التمثيل، أما كان سميُّك مارون النقاش أول من مثل وألف المسرحيات؟
فمتُّ من الضحك، فقال متعجبًا: ما لك تضحك؟!
فقلت له: هذا تمثيل من فن آخر يا أخي، هذا تمثيل مسرحه صندوق الحكومة؛ أي أن يمثل لبنان رئيس جامعته تمثيلًا لائقًا بوطن الإشعاع، ويزيد على أمجادنا الحرفية التليدة مجدًا طريفًا … ثم من يدري إذا كانوا يفكرون بثياب تمثل جامعتنا وألقابها العلمية كالدكتوراه، مثلًا، التي يوقعها علامتنا الأستاذ فؤاد أفرام بعد أن«يدكتر» بمرسوم، وليس في لبنان أمر عسير، فقد يتصيد غير هذا من الألقاب فنهلل ونقول كل الصيد في جوف الفرا.
خطاب طهران
وأخيرًا، لا بد من كلمة حول خطاب صاحب الفخامة في جامعة طهران. كان العهد بفخامته أنه رجل قانون، ورجل سياسة ودهاء من الطراز الأول، ورجل عمران ومشاريع دشنها كلها جملة وتفاريق، فإذا به يطلع علينا في الخطاب الطهراني الجامع رجل أدب، رجلًا متضلعًا من تاريخ الأدب، وتاريخ الحكم في لبنان وفارس عبر العصور، فيحسن المقابلة بيننا وبين الفرس في ميادين الزمن. استعرب الفرس قبلنا وكان لهم السهم المعلى في تطوير الأدب وجمع شتات اللغة، حتى ابتهر ابن منظور على أبناء الشيخ يعرب بقوله حين دفع إلينا معجمه لسان العرب: خذوا لغتكم من أعجمي.
ثم جئنا نحن بعد مئات السنين وعملنا أشياء ذكرها فخامته، ولكن هل يسمح لنا الدكتور شمعون، وهو جدير جدًّا بهذا اللقب، هل يسمح لنا، أولًا، أن نرجو منه أن يوقع هو براءة الدكتوراه الفخرية إذا منحتها جامعتنا؟ قلت: «الفخرية» لأن الدكتوراه العملية ليست عندنا بعدُ، ومص القصب عقدة وعقدة.
وثانيًا: أن نعلق على خطابه الذي رفع به رأس لبنان عاليًا، ما كنا لنفتح فمنا لو لم يكن الخطاب أدبيًّا، ومن صميم الأدب. وهذا عملنا. لا أتعرض للتاريخ السياسي؛ لأن هذا ليس من عملي، فأنا درويش في السياسة.
قابل فخامة الدكتور شمعون بين آثار اللبنانيين الفكرية وآثار الفرس، فلم يوفق كثيرًا، وكيف يصاحبه التوفيق الكبير حين يجعل بحث المطالب قبالة «الكتاب» لسيبويه؟ «بحث المطالب» للمطران جرمانوس فرحات بحث يؤلف مثله كل من يحسن القراءة والكتابة. بماذا نقابل الكلمة المقولة في سيبويه: من شاء أن يؤلف في النحو بعد سيبويه فليستح؟
وبماذا نجاوب ذلك الفاضل الذي كان يسأل كل طالب يجيئه ليسمع منه: هل ركبت البحر؟ أي هل قرأت الكتاب لسيبويه؟
أليس من الابتهار أن نقابل تلة رمل بجبل صنين أو ضهر القضيب، ونقول: لنا هذا؟ فأي معجزة عمل المطران فرحات، صاحب بحث المطالب، أعمل غير معارضة ألفية ابن مالك نثرًا؟ ابن مالك أسلم النحو العربي على يده، والمطران نصَّره، وإذا كان لابن مالك عذر؛ وهو أن النحو استلهم من الكتاب الكريم وطبِّق عليه، فالمطران لا عذر له؛ لأن أمثاله الإنجيلية التي حشا بها بحث مطالبه معربة. وهكذا لعبت الطائفية دورها في علومنا اللسانية والكلامية، وظلت تسوقنا بعصاها حتى هذه الساعة. وقبل وبعد، فالمطران نثر منظوم ابن مالك، ونقل شرح ابن عقيل إلى لغة ركيكة.
أذكر، ولا أنسى، أستاذًا لنا أنه قال حين بلغ هذا الشطر من قول ابن مالك: وما لنا إلا اتباع أحمدا. اكتبوا، يا أولادي، امحوا «أحمدا» أولًا، وضعوا محلها «ذي الفدا»؛ أي المسيح. وهكذا مسخ الشعر فصار: وما لنا إلا اتباع ذي الفدا.
كان الحق أن يقول الرئيس اللبناني للشاه الإيراني: لكم «الكتاب» كتاب سيبويه، ولنا كتاب الشرتوني الذي جدد في علم النحو حين بوبه وسهله، وجاء بالأمثال التي تلائم روح العصر وتماشي الزمان، فكان لنا أول علم نحو حديث، ولكننا في لبنان ننسى دائمًا أو نتناسى من ليس له من ينوِّه به؛ ولهذا تناسى لبنان عالمين كبيرين من أيمة نهضتنا نهضته سعيدًا الشرتوني وأخاه رشيدًا.
وإذا أردنا وضع النقاط على الحروف تساءلنا: عمن أخذ سيبويه «كتابه» العظيم؟ فالتاريخ يجيبنا: عن الخليل بن أحمد العربي اليعربي، وسيبويه الذي معناه رائحة التفاح يفوح شذا اعترافه بفضل معلمه؛ إذ يقول في «الكتاب» عند كل فتوى نحوية: وسألته — أي سأل الخليل — فأجاب كذلك، ونعود إلى مطراننا الجليل، ذلك المجاهد الكبير في ميادين الثقافة، لقد عشق العربية أيما عشق حتى أبحر، في ذلك الزمان، زمان مراكب الخشب والخيش، واضعًا روحه على كفه، راجيًا أن يبلغ الأندلس ليقف على آثار قومنا العرب وقوف غيلان في ربع مية.
نعود لنستغفر الله لأننا حملنا على كتاب مطراننا؛ فهو من لانت له العربية التي قيل فيها: أبَتِ العربية أن تتنصرا، فالمطران جرمانوس فرحات، أسقف مدينة حلب الشهباء، هو الذي أدخل اللسان المبين إلى البيعة، وأحله من عن يمين مذبح البخور، فترجم وألف. وهنا عمله الرائع، فهو أول من ألف دائرة ثقافية للترجمة والإحياء والتصحيح، فكان من أعضائها التولاوي، والباني ملافنة الموارنة في ذلك الزمان. هذا هو عمله الثقافي الأكبر لا بحث المطالب.
والذي قلناه بمعرض الكلام عن بحث المطالب نقول مثله في مقامات ناصيف اليازجي المقلد للحريري والهمذاني، والمقصر عنهما تقصيرًا كبيرًا.
وجاء في خطاب فخامة الرئيس: لكم إقرار أسلوب النثر العربي، ولنا بعث هذا الأسلوب بقلم إبراهيم اليازجي وسليمان البستاني، كما قال قبل هذا: فالمحيط لكم ومحيط المحيط لنا. ترى ماذا نكون فعلنا إذا كنا نقلنا المحيط بعفشه ونفشه، وما زدنا عليه إلا طمطمانيات؟
أما كان الأحرى بفخامته، حفظه الله، أن يذكر «الجاسوس على القاموس» في هذا السياق؟ وما الجاسوس على القاموس إلا نقد ظاهره نقد «القاموس المحيط»، وباطنه نقد محيط المحيط الذي «كرس» أخطاء كتاب الفيروزآبادي، مطبعية وغير مطبعية، ناهيك أنه مبدع «سر الليال» وكفى.
ثم أية قرابة بين أسلوب اليازجي الابن وسليمان البستاني، وبين أسلوب ابن المقفع؟ إن هذين الكاتبين جاءا متأخرين، بينما صاحب الجاسوس على القاموس أحمد فارس الشدياق هو ركن النهضة وأبوها، وهو الذي ثار على السجع ورد الكُتَّاب إلى الأسلوب الهين اللين الذي لا تكلف فيه.
وما كان أنصف البستانيين الأحفاد حين تناسوا خصومة الشدياق لعميدهم المعلم بطرس العظيم، وسجلوا في دائرة المعارف هذا الاعتراف النبيل: «نهج الشدياق في كتابته نهجًا جديدًا جمع فيه بين متانة العبارة ورقة الإنشاء، ولولا مجونه وتصلبه في تعزيز الوجهة التي يوجه إليها قلمه، لقلنا: إنه الإمام الذي يرجع إليه، والمثال الذي لا يعول إلا عليه.» فهل يؤيد الآخر قول الأولين أم يظل جزويتيًّا وعدوًّا للشدياق رقم صفر؟
فليت فخامة الرئيس الدكتور لم يغفل عن ذكر الشدياق، وهو لو فعل لكان وضع بإزاء تلك القمم قمة لبنانية، وشبه جبلًا بجبال، فيكون لنا في الأدب كما في الجغرافية ليبان وأنتيليبان.
إني لأرجو ألا يغيظ فخامة الرئيس هذا التعليق الأدبي، فلولا القول: كلام الرئيس رئيس الكلام، لما كنا حركنا ساكنًا، ففخامته شرفنا في العواصم بتمثيله الرفيع لنا، وحسب لبنان أن يكون له رئيس لا يضارع كياسة وأدبًا، ونشاطًا عمرانيًّا. والدليل على هذا النشاط انتقاله، على الفور، من شِعْب بوان إلى إقليم الخروب ليدشن مشروعًا حيويًّا!
دامت له هذه الهمة، وأبقى له الله رداء الشباب.