الشيوخ والشباب١
خفت أن تكون حكايتي في الكيت كات كحكاية أعرابي في عرس، فاحتطت لنفسي كثيرًا. ومن يلوم نصَفًا مثلي إن خاف على هيبته من الغصون الأماليد. عَرضتُ كبرتي الجليلة على المرآة وطوَّفت في جهاتها الست، فرأيتها، واحسرتاه، مثل حصون سغفريد تقريبًا؛ الصدأ دب إلى عنوان الكتاب، والكهولة تمشي الهوينا، لا ريثٌ ولا عجل، تحفر كل يوم ثلمًا جديدًا تخبئ لي فيه همًّا مستبدًّا، فاستلقيت على الصفَّة مروعًا أسأل الكتاب بلسمًا لجراحات الأبد، فرماني أبو الطيب بهذا السهم:
فصببت على لحيته خمسين ألف لعنة، وتشاءمت من ليلةٍ، كل ما فيها، ينعى إليَّ نفسي، وأخذت أذرع الغرفة، كمبارز موبسان، أخالس المرآة النظرات، وأكذب نفسي عنها في كل ما أرى، وفتح الله عليَّ فهبطت النجدة من علٍ فردَّدتُ عفوًا:
وبينما أنا أستلمح هذا العذر الأبلق إذا بالذاكرة تسعف بخير منه:
ثم استفحل الوحي والإلهام فانقض عليَّ هذا البيت:
وهكذا كانت المعركة الفاصلة، ونمت على سرور.
فبناء على: «رأيت من الأحبة ما أشابا.» وبناء على: «أخو خمسين مجتمع أشدي.» وبناء على: «لي همة مثل حد الصارم الذكر.»
أمرنا ونأمر عبود أن يلقي دلوه بين الدلاء في مأدبة تكريم صاحب المكشوف، وأن يمثل الشباب (الكبار) في ليلة الوسام الذي مُنحه تقديرًا لأدبه وجهده في سبيل نشر الكتاب.
يا شباب!
إن لم أكن في رسالتكم عليًّا كنت فيها أبا بكر، وإنْ لم أكن صِدِّيقًا إلى أبعد مدى.
شباب شيوخ، قديم جديد، هذا نزاع أزلي سرمدي؛ فالملائكة ثاروا في شبابهم على الله القديم الأجيال، فكانت حرب طاحنة فاز فيها الظافرون منهم بالنعيم المقيم، واستعمر المغلوبون الأرض، فكنا نحن أبناء الناس طعام الشياطين، ولا يزال شر تلك الخطيئة الأصلية، وهي قبل خطيئة آدم، يتقد بين القديم والجديد، والشيوخ في ثياب المراتب، وشعارهم الحكمة، والشباب في التبَّان يضحكون من بنت الهرم.
هنا صبية تملأ الدنيا عنجهية لأنها صارت عروسًا، وهناك حماتها ذات شفتين كفم المصرِّ تقول لجارتها ساخرة: متى كان التعريس عجيبة، أما كانت الحماة كنة ثم نسيت كل شيء حتى اسمها في البنوتية؟
هذه حجة العاجز فاصفعوا بها لحيته. الحياة شباب، وإن لم نصدق الله، سبحانه وتعالى، فمن نصدق؟ إنه لم يعلل عبيده إلا بشباب دائم. لم يعللهم بالحكمة والكهول والعجائز، بل بجنة للشباب في حافاتها زجل، كل من فيها أمرد، ولا ملتحٍ فيها غيره، سبحانه وتعالى، فيا ألف مرحبًا بالقيامة والموت إن كان هذا ما ينتظرنا في دار الله.
فالذي يرتضي بوقار يجللون به الشيوخ كمن يصدق أن الترمس أحلى من اللوز. وما كان أشبه الأخطل الأصيل إذا ازدرى هذه الخزعبلة قائلًا في الحسان:
إن أشد الناس كفرًا بناموس الحياة هو الذي لا يؤمن بالشباب، ويا ويح أمة ليس لشبابها رسالة! وحيا الله شبابنا المؤمن، الواقف على العتبة يروز رسالته بيدين قويتين، ويتطلع إلى الدنيا بعينين طافرتين.
أيها الشباب:
إن ليالي الكيت كات، وأصيل عجرم، ومصايف لبنان تدعوكم. لقد خلد الذين يزدري بعضكم أدبهم، داراتهم وطلولهم من جلجل إلى الرقمتين، وقفَّى مَن بعدهم على آثارهم فخلدوا دير حنة ودير سمعان ودير الشياطين وقطربل وطيرناباذ. وإذا احتج ورثة مقياس ابن خلدون على تحريفي طيراناباذ؛ فليفتحوا معجم ياقوت، وهم المسئولون عما يصادفون.
لقد خلد السلف كل ما هب ودب حتى الضب والحرباء والظربان، ونحن في عصر أقل شيء فيه آية لا نستوحيه شيئًا. من لم يلتق منا بعنيزة وهند وفاطمة وهريرة في المصايف والحمامات، فماذا عملنا لهن؟ أي فرق بين طلول الجاهلية وبيوت عالية وصوفر وضهور الشوير وزحلة وإهدن وبشري والأرز متى أوتر السحاب قوسه وندف قطنه؟
أرأيتم كيف أدعو إلى المصايف مجانًا، وغيري يعطى ويزاد وأنا يؤخذ مني الذي لي؟ إن طريق عين كفاع مصروعة في الوادي كجريح أريحا، أفما في هذه البلاد سامري؟
وبعد، فما لنا ولهذا الآن، لقد قال أبو نواس، وهو بين الخمارة والسجن، شعرًا كثيرًا خالدًا، وهو لو مر ببيروت اليوم لراعه أن تعترضه ألف جنان، والشعراء عنها لاهون بفلانة وفلانة من عرائس البلى وبنات القبور كبنت يفتاح مثلًا.
ولو زار بشار ديماس الكيت كات لاستضحك وصفع الحرسيَّ ومحتسب الجند ولم يسترخ للمهدي، وقال الشعر على هواه.
فهلموا نصور زماننا، ألستم في ليلين: الأمن والشباب؟ إن الفن غل صور الحياة الهاربة، فاملئوا مكشوفكم بروائع فنكم، واجعلوه معرضًا حيًّا تقف فيه الذرية خاشعة.
ما أسعد ساعة تاب فيها رسول العري — الشيخ فؤاد حبيش — واحتشم، فصار مكشوفه لسان أدب الجيل الطالع، وأطعم الألوف المؤلفة من سمكتين وخمس خبزات.
يدهشني أن تكون الحكومة الفرنسية هي التي قدرت هذا الرجل، فكان وسامها داعية لتكريمه، مع أن الشيخ، حفظه الله، يبشر برسالة لبنان في كل قطر، وقد يكون نسي رداءه في مصر كما نسيه مار بولس في ترواس عند كاربوس.
إن مكشوف الشيخ يمثل لبنان الأدبي خاصة، والأدب العربي عامة، فهو جريدة مدرسة، وليس هنالك مدرسة؛ لأن المدارس الأدبية تعلم التقليد، وسر الأدب في الخلق الجديد. للمدارس نماذج لا تتعداها، ثم لا يحبو الزمن حبوتين حتى تصبح تلك النماذج رواسم وقوالب، كما هي الحال في أكثر الشعر الجديد الذي يسمونه عندنا رمزيًّا … أما هذا العجب فهو توءم كل من يشق طريقًا جديدة، وإذا اضطرمت أنوف الشباب وورمت خدودهم فخطاياهم مغفورة، فهم في سن ترى البرغشة جملًا، والناس ذبَّانًا، وإنهم لصائرون إلى ما صرنا، ولو أوتوا ما أوتي الضب والسقنقور، ومن أراد علم هذا فهو عند الجاحظ.
والآن، يا شيخ فؤاد، يا حامل لواء أدب الطليعة — كما قالت الهلال — السلام عليك وعلى عصابتك وعلى ما حبلتم وستحبلون به بلا دنس، ما هذه الحفلة تكريمًا، إن هي إلا وقفة في أول العقبة؛ فطريق الأدب طويل، أطول من دهر المعري، فإلى الأمام، دائمًا إلى الأمام.
ولعلي أقف معكم وقفة ثانية لتكريم أخينا الآخر، رفيقك في مطلع نهار الجهاد. لقد عبر الأخ، الكلي الاحترام، صاحب الجمهور، باشتراكه معنا عن اتحاد كنائسنا الأدبية — عند اللزوم — غير أن للأدباء ربًّا واحدًا هو الفن، تقدس اسمه ولا أتى ملكوته.
وأخيرًا أنا. تعلمون أن أعراب الأصفهاني خرج من وليمة ذاك العرس مبشومًا وهو يقول لمرشده: آمنت بالله أولًا، وبك ثانيًا، وبالبربط ثالثًا، وبالبمِّ رابعًا، أما أنا، أعرابي الكيت كات، فأقول: أؤمن بأدب عربي واحد، لا فينيقي ولا فرعوني، تألم وصلب على عهد الحريري والحلي واليازجي، وأؤمن بالمشيب والشباب، والروح القدس المنبثق منهما، وبكنيسة أدبية واحدة جامعة، وأترجى على يد الشباب قيامة الأدب والحياة الجديدة في دهر المكشوف العتيد. آمين.