السيد جمال الدين الأفغاني
لا بد للأمة من رجل متمرد يستيقظ في غفوتها، ورجل الإسلام والمشرق الواعي أبدًا كان السيد جمال الدين الأفغاني؛ فأيقظ القرن التاسع عشر بعد هجوده.
لم يكتب هذا الرجل كتابًا، ولكن شخصه كان أضخم كتاب في النهضة الحديثة. كان كتاب الشرق الحي؛ فخلق رجالًا وأيقظ أُممًا كانت غافية تملأ الفضاء شخيرًا ونخيرًا.
لم أعرف له تأليفًا إلا رسالته في الرد على الدهريين، نشرها فرح أنطوان بعد موته في مجلته الجامعة وعلق عليها، ولكني عرفت أنه خلق في الأقطار التي وطئتها رجلاه مبادئ لم تمت. كانت المعرفة الكبرى والجرأة العظمى في جراب هذا الدرويش الأكبر.
كان السيد من طراز الفلاسفة الرواقيين، كان الأستاذ الأعظم في عصره، وكان أستاذ مدرسة عظمى لا جدران لها ولا سقف، فأخرجت رجالًا كانوا قنابل ذرية مهدت السبيل للذرية. كان يتكلم كمن له سلطان؛ وأي سلطان أعظم من سلطان الحق الذي تجند الأفغاني لنصرته؟
يقول المثل: صاحب الحق سلطان، ولكن جمال الدين أرهب الملوك والسلاطين وهو لا يملك من حطام الدنيا غير لسانه وجنانه. قاوم بهما الظلم والاستبداد، فتماسكت التيجان حين زعزع هذا الإعصار العروش، ولكنها لم تثبت إلا إلى حين.
كنا في عهد السلطان عبد الحميد نقول هكذا قبل أن نذكر اسمه: خاقان البرين وسلطان البحرين، ظل الله على الأرض، ولي نعمتنا بلا امتنان، السلطان ابن السلطان، السلطان عبد الحميد خان. أما الأفغاني فما رأى فيه ظلًّا لله، ولا ولي نعمة، رأى فيه عارضًا مستقبلًا الشرق يريد أن يحجب نور الحق، وهو خليفة المسلمين وأمير المؤمنين.
ولما دعاه عبد الحميد إلى حضرته، لم يتقيد بمراسم ولا تشريفات، بل جلس في الحضرة الهمايونية يلعب في مسبحته، يُسأل فيجيب، ويناقش فيدلي بالبرهان والحجة. ولما خرج من حضرة الذات الشاهانية قال له مدير المابين: هكذا تلعب في مسبحتك وأنت بين يدي مولانا السلطان؟ فأجابه السيد: مولاك السلطان يلعب بثلاثة وثلاثين مليونًا من نفوس شعبه؛ أفلا يحق لي أنا أن ألعب بثلاث وثلاثين حبة من الزجاج؟
جاء مصر فشاع صيته، وانضم إلى حلقته ذوو النفوس النيرة، فجمعها كما تجمع الدجاجة فراخها تحت جناحيها. وجاءه وفد من كبار طلاب الأزهر ليسمعوا كلامه ويناقشوه، وكانت تنام حدَّه هرة، فأخذ يمر يده على ظهرها فتقنطر وتشيل بذنبها، فالتفت إلى أولئك المشايخ الصغار وقال لهم: أرأيتم هذه الهرة؟ إنها صورة عن مشايخكم يا أبنائي. إن هذه المبادئ تجسدت في حواريه الإمام محمد عبده الذي قال وهو على فراش الموت:
فإذا شبهنا الأفغاني بسقراط، كان محمد عبده تلميذه الذي جسد تعاليمه كلمات، وحاول جهده أن يزيل العناكب التي أخفت العرق المتين في الذهب الوهاج.
ومجد الرجل — أي الأفغاني — أنه عرف الطريق، ووضع صُوى الدرب. وجد مجتمعًا تنهب رأسه الخرافة لتضعه تحت كابوسها، ووجد مستعمرًا يمد في حياة الخرافة ليضمن دومًا استسلام قطيع الخراف … وكانت براعته أنه وجَّه الضربة في أول الأمر إلى الرأس: ضرب يد المستعمر فتهاوت هنالك السدود. كان لنا هذا الطوفان.
أجل يا إمامنا الجليل، كان الطوفان، كما روت التوراة، لتطهير الجنس البشري من أدرانه، وليس طوفان الأفغاني بأقل منه شأنًا. إن بحر الفكر لا ساحل له. كان الرجل طوفانًا وسفينة وربانًا في وقت معًا، وهكذا يكون الرجل الرجل.
إن «الكوكب الغربي» في لغة أبي تمام، ومذنب هالي في لغة علم الهيئة يظهر في نظامنا الشمسي كل ثمانين عامًا فيروع الناس، ولكنهم يعودون بعد اختفائه إلى ما كانوا عليه من لهو وعبث.
فمن لنا بمذنب جديد، وقد قربت الساعة، يظهر في سماء هذا المجتمع فيلمسه برأس ذنبه، ويجعل عاليه سافله، ويعيد بناءه من جديد؟
إننا إذا كنا نريد حقًّا تمجيد ذكرى جمال الدين والدنيا، فلنعمل بما علَّم، فلنثر على نقائص هذا المجتمع، فلنثر على أنفسنا أولًا لنطهرها من أدران أنانيتها، من أقذار طوفان المادة، فقد بعدنا جدًّا عن تعاليم المسيح ومحمد، ولا إصلاح إلا باتباعها والعمل بنصوصها الصريحة، دونما اجتهاد وتأويل.
الإنسان أخو الإنسان، والمجتمع الإنساني وحدة لا تتجزأ، وإذا حطمت هذه الوحدة عشنا في جحيم قبل أن ندرك النعيم.
جاء الأفغاني مبشرًا بحقوق الشعوب، والشعوب لا تدرك حقوقها إلا إذا أصلح المسيطرون ما في أنفسهم، وإذ ذاك يلقى النير عن الرقاب.
تلك كانت رسالة الأفغاني في زمن كانت فيه الأفواه مكمومة، فحقق جمال الدين الكلمة المأثورة: أفضل الفضائل قول كلمة حق في حضرة سلطان جائر.