دراسة الأغاني
هل ركبت البحر؟ هكذا كانت العلماء تسأل طالب النحو في ذلك الزمان.
كانوا يعنون بالبحر كتاب سيبويه الذي قيل فيه: من شاء أن يُؤلِّف بعد سيبويه في النحو فليستح. وإذا استعرنا هذه الكلمة لكي نقولها في كتاب الأغاني، فلا نكون قلنا غير الحق؛ لأن هذه الكلمة تنطبق عليه. وها هو الأستاذ الكبير شفيق جبري يركب البحر ويستعمره ويضع له خارطة تجميل … فليته يتبع هذا الكتاب بكتب أخرى تتمه، فيكون لنا كتاب «أغاني» جديد مبني على أحدث طراز.
فقبل أن كتب الأستاذ جبري كتابه دراسة الأغاني لم يكن يعني الأدباء والمتأدبين من كتاب الأصبهاني غير دراسة الشعر والشعراء، فهذا الكتاب كان مرجعًا لأساتذة الأدب والمؤلفين في تاريخه، كما صار عند ظهوره منذ ألف سنة رفيق الصاحب بن عباد، فاستغنى به عن مكتبته التي كان ينقلها ثلاثون جملًا تحمل الأسفار التي لا يستغني عنها ابن عباد.
لقد بوَّب الأستاذ وصنف والتفت إلى ما لم يلتفت إليه أحد غيره من قبل. عني بالأخبار التي لم يأبه لها أحد، وأحدث من كتاب الأغاني حدائق منظمة، فبعد أن كان كتاب الأغاني الضخم مثل مخازن السمانة التي لا تزال نراها في مدننا اليوم، قد جعل منه هذا العلامة مخزنًا طريفًا وحديثًا.
ففي أواخر القرن الماضي أدرك الأب لويس شيخو شأن هذا الكتاب العظيم، فانكب على تصنيف روايات وأخبار الأغاني، فجمع بعضها في جزأين: جزء للحكايات الاجتماعية، وجزء للروايات الأدبية. وقد استقبلنا هذا الكتاب في أول عهدنا بالدراسة، وكنا نقبل عليه لسهولة لغته، وحلاوة تعبيره.
إن شيخو لم يفعل إلا الاختيار لطريف الأخبار، ولكن شفيق جبري نخل وغربل وانتقد وحاكم، ولم يدع كل شيء للقارئ؛ ففي أماكن قليلة جدًّا كان يعارض أبا الفرج، ولكن إعجابه بعبقرية الأصبهاني كان يطلع عليك من كل مجثم، وهو لم يقسُ على أبي الفرج قسوته على ابن خلدون حين ناقش دفاعه عن الرشيد وأخته.
كان جبري في دراسة الأغاني عادلًا منصفًا لم يفكر بعصبية، بل كان قول الحق رائده، فأعطى الحق صاحبه. وهكذا تكون الدراسة.
قد قرأت كتاب جبري كلمة كلمة، وأعجبت جدًّا بالفصل الأخير منه الذي عنوانه «لغة صاحب الأغاني وفنه»، فقد بلغ الأستاذ فيه قاع هذا البحر. ولا أدري إذا كان أحد من قبل قد كتب خيرًا من هذا في النقد والاهتداء إلى مواطن الجمال. قد أظهر الأستاذ جبري عبقرية فن صاحب الأغاني، وقابل بينه وبين موليير في طرافة الحكاية. ساعد جبري على ذلك اطلاعه على أدب الغرب وذوقه الفني الذي قاده إلى محاكمات كثيرة ذات شأن. وهذا جهد يستحق عليه أصدق الثناء، وأظن أنه لم يظهر بعد كتاب عن الأصبهاني من هذا العيار الثقيل.
لقد ظهرت عبقرية جبري في هذا الفصل الذي أسميه أم الكتاب وإن كان ختامه؛ ففي هذا الفصل والذي قبله أدرك جبري سر جمال الأصبهاني كله. وبعد أن كان الأصبهاني مرجع كتاب تاريخ الأدب أصبح صورة ناطقة للمجتمع القديم، وهذا أعظم ما استخرجه منه جبري.
إن جبري يحب الكتَّاب الظراف، فقد سبق له أن درس الجاحظ دراسة وافية. وها هو، كما بدا لي، في دراسة الأغاني، حين يأتي دور أبي الفرج في النقد، يقف موقف محامي الدفاع لا الادعاء. وكم كنت أتمنى أن يقابل الأستاذ شفيق بين أبي الفرج وأبي عثمان الجاحظ عن عبد الرحمن آكل الرءوس! وهنا يظهر لنا الفرق بين عقلية الكاتبين، فالجاحظ عقله جدلي يعمل من الحبة قبة مع مجانبة استكراه ممل، والأصبهاني قصير النفس في الموضوع الواحد. وأكبر ظني أن كلمة ابن العميد قد استحقها الجاحظ وهي في محلها: كل الذين جاءوا بعده عيال عليه.
وأخيرًا أقول: سلمت يدا أستاذنا العلامة الجليل؛ فغير قليل تمحيص واحد وعشرين مجلدًا من كتاب من أكبر قطع وأدق حرف. وإذا كان جبري اختار وانتقى ولم ينقع غلته في كتاب صفحاته ٣٢٣، بل لم يأخذ من البحر إلا ملء جرة، فكيف لي أن أحيط بكتاب الأستاذ في مقال كهذا؟
وبعد، فليس لي ما يقال إلا كلمة أوجهها إلى أديب مجهول ينبري إلى إنقاذ كتاب الأغاني، وهو خمر خزانتنا الأدبية، من هذه الأسانيد المملة وتكرار الرواية المزعج الذي يعرقل خط سير الكتاب.
أما لغة الكاتب جبري، فحسبي أن أقول فيها: إنني لم أستطع تمييزها من لغة أبي الفرج حيث كان يختلط الكلامان بسبب إهمال الفواصل. أما الهفوات المطبعية فكثيرة.