في زحام المدينة
مجموعة أقاصيص للأستاذ أنور شاءول، أبطالها مدنيون يرقصون ويغنون ويشهدون سبق الخيل ويطيرون، وفي الجملة أنهم من صميم حياة بغداد، وبغداد أم شهرزاد. أجاد الأستاذ شاءول إخراجهم، فكاد يغريك مشهدهم حتى تخالهم يتحركون. يحسن الأستاذ ابتداء أقصوصته كما يجيد ختامها، فتمشي على الهينة من أول خطوة حتى تبلغ الغاية، فأقاصيصه حسنة السياق والتوجيه. أما الأشخاص فصورهم غير حادة الملامح، والحكاية لا تكلُّف فيها؛ لأن لا قيمة رئيسية لها عنده، وكذلك التحليل النفسي؛ فإنه مندمج في سيرورة القصة ولا يقصد لذاته، والتعبير لا تأنق فيه، يكتب ببساطة فائقة، فلا خيال ولا تعمُّل حتى تكاد تظن أنه يسرد خبرًا. وهذا في نظري القص السهل الممتنع، كما قالوا قديمًا في أسلوب ابن المقفع.
كل قصة من أقاصيصه مبنية على فكرة، وعليك أنت أن تجدها؛ لأن المؤلف لا يعنيه أن يدلك عليها، فهو يتلبس بأشخاصه كأنه يتنكر بها، فلا تكاد تعثر على آثاره ولو كنت ممن تمرسوا بعلم الأدلة الجنائية. وإني لأعجب من هذه البساطة الأسلوبية، مع أن بعض أدباء العراق قالوا لي: إنه شاعر عندما شرفوني بزيارة.
قد يكون الأستاذ شاءول يرى أن الأسلوب البسيط هو أسلوب القصص، ولكنني أعتقد أن الأقصوصة، وهي قطعة أدبية فنية، لا بد لها من الأخيلة الشعرية، ولكن ما لنا ولهذا ما دامت أقصوصته تحثُّ المطالع على السير إلى النهاية بلا ملل.
بقيت مسألة الحوار، وهي من أركان الأقصوصة الرئيسية، فكيف نوفق بين قول الأستاذ: أنا تحت أمرك يا ناهدة، وبين القول على الأثر: إنك إذن لمغفل عظيم. أرآها الأستاذ متجانسة مع أختها؟ فإنَّ، وخصوصًا إذا كان خبرها مقرونًا بلام التوكيد، ليست من بضاعة الحوار، وبخاصة إذا كانت لا تجانس ما قبلها.
وأما هذا الحوار العامي في أقصوصة «حمَّال»، فمنه الطبيعي العامي الفصيح كقوله: عمي … حمال، ومنه العامي العراقي الذي أضعنا معه الطريق وتهنا، فليته تأنَّى قليلًا؛ ففي الاستطاعة أن يصير هذا الحوار مفهومًا من كل قطر.
قد يقول لي: على هذا جرى موبسان في بعض أقاصيصه البروفنسية، وأنا أجيب: إنهم كانوا يعربون عن غموضها بشرحها بلسانهم الفصيح، أما نحن فمن يشرح لنا معنى لفظة بايك. إن المزار بعيد، ودون ذلك أهوال.
إننا نحب أن تكون لنا اللذة كاملة غير منقوصة، وقد صدقت في أقاصيص الأستاذ أنور الكلمة المشهورة: البساطة تخلق الجمال، فعسى أن يتحفنا بأخت لها من طرازها الطريف؛ فهي لا تقتضي القارئ عناء، والقصة وجدت للترفيه، فكيف بها إذا كانت للتوجيه الصامت أيضًا؟
قليلة هي الأقاصيص التي من طراز أقصوصة «أبو فتحي». فتح الله عليك بخمس من مثلها، ومن مثل «تريد أن تحب».