ملحمة بولس سلامة
كان علينا أن نبدأ بالقديم من الكتب النائمة على الرف نومة الهنا، وقف سيل الكتب حين ظن الناس أن الله سيأخذ وداعته. أما أنا فما كنت أريد أن أتحلحل أو أتزحزح، ثم انتفضت وزال القبر والكفن، فعاد سيل الكتب الجديدة إلى مجراه. وها أنا أبدأ بملحمة بولس سلامة؛ لأنها مستعجلة جدًّا والطبخة على النار.
عرفت بولس سلامة في عز شبابه، كان عملاقًا تام الألواح يثقل الأرض ويسد الفضاء، لا كما قال ابن الرومي في وصف نفسه، بل كما قال بولس في وصف هيكله العملاقي:
أما كيف تسرب هذا الداء إلى تلك القلعة الممردة، فهذا ما أعيا الأطباء علمه، ووقفوا عنده حائرين. لقد صدق شاعرنا في وصف بلواه حين قال:
قالوا: الفضل يعرفه ذووه، وأنا أقول: الذي يأكل العصي ليس كالذي يعدها، فعندي من آلام بولس سلامة عشر الخبر، ولكن الآلام التي أغنت الأدب العربي المعاصر لآلام مطهرة، والعبقرية بنت النار المقدسة التي تصهر ولا تحرق؛ فلولا مصيبة أيوب لم يكن سفره الخالد، ذاك السفر الرائع خيالًا ووصفًا، وقد عدوه من الملاحم. ومن مثل تلك الآلام الأيوبية انبثقت ملحمة بولس الجديدة التي لم يأت بمثلها شاعر من المتقدمين والمتأخرين والمعاصرين. فإذا قال بولس: أيوب! ما أيوب؟ فلسنا نكذبه، فلولا مرضه لما قال هذه الملحمة، ولما بنى في دنيا الأدب العربي هذا الجبل الذي لا ترقى العين إلى شماريخه.
وعرفت بولس سلامة في شباب عمره يلهو بالصغائر مثل بنت يفتاح وغيرها من دُمى الأدب، كان يتساجل وسعيد عقل في ذاك الميدان الضيق، ولما صار جزءًا من فراشه أمسى جبارًا في شعره، فجاء بالمعجزات. إنه بلا منازع أطول شعراء الضاد نفسًا، وأصحهم لغة، وأنقاهم عبارة، وأشردهم قافية. ضم في هذا البرج دنيا العرب قديمة وحديثة حتى صح أن نقول فيه ما قال البحتري في إيوان كسرى:
كان شاعرنا، حين عرفته، شاعر القضاة، أما اليوم فصار قيدوم الشعراء، وحامي الحقيقة المعلم. أخضع القافية العربية لنير الوزن فمشت منقادة لمشيئة الشاعر، والأعلام التي بدت لي نابية في إلياذة هوميروس رأيتها في هذا السفر المعجز تستخزي لهذا الحادي الذي طوى البيد طيًّا، وإن قال هو في المقدمة غير ذلك.
فملحمة عيد الرياض كلاسيكية أولًا، وإن ضمت بين دفتيها جميع الألوان والمدارس، فقد أطلت علينا بمائة وجه كما قال هو. وهذا ليس بكثير على شاعر يخرج في خلال أشْهُرٍ قصيدةً مؤلَّفة من زهاء ثمانية آلاف بيت. وقد صدق حين شبهها بالقلعة المنيفة، والغابة البكر، والمسجد الرحب؛ فإذ فاتها شيء من الجمال المخنث، فقد أدركت الكثير من أبهة الرجولة وجلالها.
وقد قال بولس يحدد شعر الملاحم ويشبهه: «أما ما سوى ذلك من الشعر؛ أي سوى الملاحم، فهو أشبه شيء بالبنايات الصغرى يراعى فيها جانب الحسن أكثر مما يراعى جانب الروعة والفخامة، وبين الحسن والرائع فارق.» وما أحسبه حين قال هذا إلا قد مرت في مخيلته صورة بنت يفتاح وقدموس سعيد عقل، ثم كأنه خشي أن تقوم قيامة سعيد، فراح يداجيه ويصانعه ويتملقه، ولا بدعَ فسعيد عشيرٌ قديمٌ ورفيق الطريق.
أما أنا فعندي لهذا تشببه آخر: إذا شبهنا ملحمتي سعيد ببحيرة طبريا مثلًا — نقول هذا لأن بنت يفتاح من ذاك المحيط — حق لنا أن نشبه ملحمة بولس سلامة بالبحر الأبيض المتوسط.
وإذا كان سعيد يركض المائة مترًا ويزفر، فبولس سلامة ركض الألف والخمسمائة وما لهث، مع أنه قعيد الفراش، ونديم آلامه، وسمير أوجاعه، وهذي بطولة أدبية بزَّ بها بولس جميع شعراء العصر، ووضع رقمًا قياسيًّا حين بلغ المدى الأبعد، واستحق أعظم أكاليل الغار، فحق له أن يتمثل بقول أبي الطيب:
شكرًا لك، يا بولس، فقد فُقتَ أيوبَ، ولا أسمي غيره؛ لأنه أعظم شعراء التوراة. أما كيف فقته فلأن أيوب العوصي غنَّى أوجاعه وآلامه، وهذا هين. أما أنت البطل الذي يغني بطولة سواه بهذا النفس الطويل، والشعر الرائع، فهذه أعجوبة الأعاجيب. إن عملك يحملني على الشك بآلامك، ولكن ما أعرفه عن صدقك يهتف بي: قف، فوقفت ممجدًا بطولتك.
قد يقول القارئ: ما عهدناك مادحًا، بل قادحًا، وأنا أجيب بقول الشاعر:
عندنا في كسروان مثل يقول: خبي زنكلك قدام معكرون بيت حبيش. وإذا رجعنا إلى الفصحى وجدنا عندها زادًا لهذه الرحلة، وهو قول أحد أيمة العلماء: من يشاء أن يؤلف في النحو بعد سيبويه فليستحِ. أجل فليستحِ أولئك الذين يُسمون كراريسهم ملاحم.
فمن لنا بمسيح آخر يقابل أعجوبة بولس سلامة بمثلها فيقول له: احمل سريرك وامش.
ولكن لا، فبولس مقعد الجسم، مجنح الفكر، وثاب القريحة، فخير للأدب أن يظل في سريره بشرط أن يطول عمره ويظل ذهنه صافيًا؛ ليعطي مثل هذا الشعر النقي الشهي كالعسل المصفى.