شعراؤنا والربيع
كأني بالشعر العربي مستودع للفكر الإنساني، فالحكمة ضالة العرب، فأية حكمة تنشد تجدها محبوسة في شعرهم، وكأني بعمر بن الخطاب، رضي الله عنه، يعني هذا بكلمته المأثورة: الشعر ديوان العرب. فالعربي حكيم بطبعه، وقد ذكرت التوراة حكمة العرب فلاسفة المشرق.
ثم جاء بعده نابغة الناطقين بالضاد، شيخنا الجاحظ، فقال في قومه العرب: كانت العرب في جاهليتها تحتال في تخليد مآثرها بأن تعتمد على الشعر الموزون والكلام المقفى، وكان ذلك هو ديوانها، وذهبت العجم على أن تقيد مآثرها بالبنيان. ثم أحبت العرب أن تشارك العجم في البناء وتنفرد بالشعر، والكتب بذلك أولى من بنيان الحجارة وحيطان المدر.
فلا تعجب إذا قلنا لك إن الشعر العربي مستودع الفكر الإنساني، ودواوينهم محشوة حكمًا وعبرًا، فما تركوا شاردة إلا قيدوها في شعرهم ليسهل عليهم حفظها. أما لماذا أقبلوا على الحكمة الموزونة، فسبب ذلك هو وحدتهم الدائمة وانقطاعهم عن العالم الخارجي في ذلك المحيط الأرجواني، فقلما تتغير صورهم ومشاهدهم، يتأملونها فتخرج لهم العبر، يقولون الشعر كئيبًا، ولا يبالون إلا بما يتصل بمعاشهم كالغيث والعشب، الذي تسمن عليه أنعامهم، ويخرج النبات الطيب.
العربي الجاهلي قليل العلاقة بجمال الطبيعة، لا تعنيه فتنة جمال الزهرة كما تعنيه الثمرة. يحب الزهرة لأجل ما تقدمه له من غذاء عتيد لأنعامه التي يعيش عليها، ولأعوام خلت كنا مثلهم لا نبالي إلا بالثمر، لا يعنينا أن نزرع قرنفلة كما يعنينا أن نزرع فجلة أو شتلة بنادورا.
زارني واحد منذ نصف قرن فرآني أتعهد زهراتي بالتقليم والسقيا فاستضحك وقال لي: يا ضياع التعب، فلو صرفت وقتك في العناية بغرسة تطعمك، أما كان أفضل لك وأنفع؟!
فرفعت رأسي والتفت نحوه قائلًا: أريد يا عم أن تأكل عيني كما يأكل بطني، أتكون كل عنايتنا متجهة إلى البطن وما يليه؟
فوضع يديه على خاصرته وفقع من الضحك، وظل يكركر ويستريح ثم يعيد الكرة، وبعد هنيهة قال مستغربًا: هذه لغة لا أفهمها! ولا سمعت من أحد أن العين تتغذى بالزهور، أعينك نحلة؟ فضحكت وقلت له: لا، عيني زنبور.
فقال: هذا حدُّ علمي، وما سمعنا أنك تصيب بالعين.
وبعد ثرثرة طويلة لا تستحق أن نشبعها بحثًا وتفصيلًا، لف ذيله وراح، وبقيت وحدي منكبًّا على عملي. كنا في نيسان، ففي مثل هذا الشهر خطر لي فكر شعرنا والربيع، ونام ذاك الفكر سنين في اللاوعي حتى استيقظ منذ أيام ففكرت في شعرائنا والربيع، ورحت أبحث عنه عند الشعراء الجاهليين، فتذكرت النابغة ونعمانه، رأيته يذكر الربيع لا لجماله وأريجه وعطره، بل ليشبه به ممدوحه، فيقول لأبي قابوسه:
خاف حين مرض النعمان أن ينقطع سيب النافلة، ويحول عطاء اليوم دون غدٍ كما قال في خاتمة معلقته: يا دار مية.
ثم يذكر الربيع مرة أخرى فيقول لأبي قابوس: وأنت ربيع ينعش الناس سيبه، ألا ترى أن النابغة يفكر بالربيع ببطنه وجيبه لا بحسه الفني؟ إخالك بعد هذا توافقني على أن شعراءنا الأولين كانت حياتهم صعبة، ورزقهم بعيد المنال؛ فلذلك كانوا يرون في الربيع أكلًا وشربًا وملء بطن على الهِينة.
وعندما سكنوا القصور أبدع شاعرهم أبو تمام إبداعًا منقطع النظير؛ إذ راح يصف الربيع هذا الوصف الفني الذي سبق المصورين الملهمين، فقال مصورًا أعظم لوحة فنية تمثل لنا الربيع:
أرأيت كيف تتزاحم الصور في هذه الأبيات الستة؟ وكيف قفز حبيب الطائي من قمة إلى قمة حتى انتهى إلى قمة الخلود فعللنا بالبقاء الأزلي السرمدي؟
ثم يأتي الطائي الآخر أبو عبادة فيسرق ابن عمه ويقول في وصف الربيع بيتًا رائعًا جدًّا، لا عيب فيه إلا أنه مال حرام، قال البحتري:
اتفق الطائيان في تشبيه الربيع بالفتى، ولعلهما يُؤثران الولدان، حتى جاء ابن الرومي، الذي نعده من عشاق الطبيعة، يقول في وصف الربيع لأنه من المولعين بالحور لا الولدان:
ثم يقول في قصيدة أخرى عن الطبيعة في الربيع:
ليس لدينا متسع من الوقت لنطيل زيارتنا لهؤلاء الشعراء، بل نجعلها لمامًا كشم الورد، فنستقبل بديع الزمان الهمذاني لنسمعه يقول:
أرأيت أن هذا الخراساني الطينة، هو كما قال عن نفسه، شحاذ ماهر ينقر بعد خمسة قرون على دُفِّ النابغة، ولا عجب فالشعر كان في ذلك العصر متجرًا رابحًا؛ ولهذا لم يفكر شعراؤنا بجمال الطبيعة، وهم لو فعلوا لأتوا بالبدع، وحيث تكون التجارة يموت الفن ويمحق.