أسبوع طه حسين
محاضرة الأونسكو
منذ عشرين عامًا تقريبًا زار القاهرة الكاتب الفرنسي العظيم جيل رومان، وكان الدكتور طه حسين يحبو إلى الخمسين، فالتف وأدباء القاهرة حول الزائر الكريم فأمتعهم كما أمتعنا الدكتور طه حسين. أذكر أن الدكتور طه أطلق على تلك الزيارة الأدبية اسم أسبوع رومان، وها أنا أستعير منه هذا العنوان لأتحدث عنه تحته.
من عادة الأستاذ الكبير طه حسين أن يثير لا أن يصطاد، وهكذا فعل أمس في التي سموها مناظرة، ولم تكن كذلك من جهة طه حسين، وإن كان الأستاذ رئيف خوري أعد لها ما عنده من عتاد. قلت: عتاد؛ لأن أديبنا الكبير رئيف خوري لم يجابه بسلاح يثير الدموع، بل كان جديًّا متهيبًا، وإن أصاب أهدافه فبيد راجفة. لقد أكثر في تلك المحاضرة من كلمة «سيدي الدكتور» حتى كانت في حديثه كاللازمة، فذكرتني بصلاة الخورس السريانية التي يكثر فيها الشمامسة من كلمة «بارخ مور» للخوري الذي يترأس الصلاة.
نظم رئيف حديثه وأشبع البحث درسًا، وأثار قضية التوجيه في الأدب، فأمسك الأستاذ طه بهذا الخيط ولم يفلته. نسي المناظرة والخاصة والعامة، فكان هو في واد ورئيف في واد، حتى صح في الأديبين قول عمرو بن كلثوم:
أما المستمعون فكانوا يسمعون كلامًا عذبًا كأنه الإيقاع يلقيه طه حسين متأنيًا، وإن كان من كل واد عصا، كما يقول المثل، ولكنها عصي رشيقة مثقفة؛ لأن الدكتور حسين يعرف كيف يصل إلى مستمعيه.
أذكر ولا أنسى يوم حضر طه اجتماع الأونسكو في ديارنا، وكان حديثه بالفرنسية، فشاء أن يعتذر عن ضعف لغته فيها، فعبر عن ذلك كما يعبر الفرنسيون فقال: «موفيز فرانسيه.» فظنوه يقصد الجماعة، فاستقبل فريق كلمته هذه بعاصفة من التصفيق.
وبكلمة، كان طه محدثًا أكثر منه مناظرًا أو محاضرًا، يستفز مستمعيه بتعابير حلوة تهز الأيدي والأرجل حتى وإن كان أكثرهم لا يدري لماذا صفق.
وبكلمة أوضح، كان زائرنا المشتاق مستخفًّا بموضوعه وبمستمعيه، فقلبه رأسًا على عقب حتى خرجنا من القاعة ولم نعرف أللخاصة يكتب أم للعامة، وكذلك خرجت الناس ولم نعرف أخاصة هم أم عامة.
في الجامعة الأميركية
وفي مؤتمر الدراسات العربية كان موضوع الدكتور «مستقبل الجامعة»، فلم يتنصل في بحثه كما تنصل في قاعة الأونسكو، ولكنه تحدث عن ماضي الجامعة المصرية بدلًا من أن يحدثنا عن مستقبل الجامعة، كما هو منتظر، بل يجوز لنا القول: إنه كان أكثر تحدثًا عن ماضيه فيها، وكيف أنشئت الجامعة المصرية غصبًا عن الملك والحكومة، وفي كل حال لم يحصر نفسه في دائرة موضوعه، فخرج منه وكأنه لم يخرج، ولكنه في كل حال سرَّ الجمهور، خاصة وكافة، بما في منطقه من جرس يجذب، وما في عبارته من حلاوة رغمًا عن التكرار واللف والدوران.
وأصغيت إلى محاضرته في دمشق وأنا متوقع أن أسمع شيئًا جديدًا يفك الريق، فإذا بالدكتور يلخص ما قاله قديمًا في حديث النثر والشعر عن أبي تمام والبحتري والمعري، ولا جديد إلا قوله: إن هؤلاء الشعراء سوريون، وإن سوريا وهبت الأدب العربي هؤلاء العباقرة، وخصوصًا أبا العلاء المعري الذي لا يضاهيه شاعر. وكان التصفيق الحاد، والوسام السامي، وطه لم يخرج من دائرة ما كتب منذ نصف قرن عن أبي العلاء وأبي تمام.
فإذا عدنا إلى أنفسنا وقلنا: بأي جديد أمتعنا الدكتور في هذه المحاضرات، كان الجواب: هزة كتف وقلبة شفة.
تحضرني بهذه المناسبة حكاية رواها الجاحظ عن أحد بخلائه، قال: دخل عليٌّ الأعمى على «يوسف بن كل خير»، وكان يوسف هذا قد تغدى، فقال: يا جارية، هاتي لأبي الحسن غداء.
قالت: لم يبق عندنا شيء.
قال: هاتي، ويلك، ما كان؛ فليس من أبي الحسين حشمة.
ولم يشكَّ علي الأعمى على أنه ليؤتى برغيف ملطخ، وبرقاقة ملوثة، وبسكر، وبقية مرق، وبعرق، وبفضلة شواء، وببقايا ما يفضل في الخامات والسكرجات، فجاءت بطبق ليس عليه إلا رغيف أرز قاحل لا شيء غيره، فلما وضعوا الخوان بين يديه فأجال فيه يده — وهو أعمى — فلم يقع إلا على ذلك الرغيف، وقد علم أن قوله «ليس منه حشمة» لا يكون إلا مع القليل، فلم يظن أن الأمر بلغ ذلك، فلما لم يجد غيره قال: ويلكم! ولا كل هذا بمرة، رفعتم الحشمة كلها.
أما الدكتور طه فلم يدع الحشمة كلها، ولكنه تبل لنا طبخة البائت ببعض التوابل، ولم نفز من مطبخه إلا بأم الفلافل.
دعي أحدهم ليلقي خطبة لا تتجاوز ربع ساعة زمان فقال: يقتضي لي فرصة شهر لأهيئها!
فتعجب محدثه وقال له: لو طلبنا منك أن تحدثنا ساعة أو ساعتين، فكم كنت تطلب من الوقت؟
فأجاب: أتكلم الآن.
أنا آسف أن أصارح الدكتور طه ومريدي طه بهذه الحقيقة، فهو لا يخرج من قمعه.
وإذا أردنا تصفية الحساب مع طه حسين قلنا: إن الأستاذ الكبير والأديب العظيم قد شبع من الثناء حتى انبشم، وارتوى وما يزال ظمآن؛ لأن الأدباء لا يرتوون من الثناء ولو عبوه من نهر الفرات … وإذا فاته المدح فلا بأس بالقدح، المهم أن يُذكر، وإلا فأي داع لقوله لأسامة عانوتي حين سأله: أنت قلت: إن زعامة الأدب انتقلت إلى بيروت؟
فقال: لا، بل قلت: توشك أن تنتقل. وهكذا نراه في جميع مواقفه لا ينسجم مع نفسه. أراه كالقبوط «الجندب» تقبض عليه فيفر تاركًا لك فخذه.
وسمعته يقول في مواقف: أردت أن أغيظ المصريين … وأردت أن أغيظ الشباب، ولماذا؟ ألأنهم يفعلون اليوم كما فعل هو بالأمس؟! ثار على إمارة شوقي ورضي عن «عمادته» هو، وأي فرق بين الثنتين؟
فلو كان الأمر لي لنزعت هذه الألقاب فألحقها بالباشوية والبكوية وغيرهما.
أما وصلنا إلى ساعة ترتكب فيها جرمًا فظيعًا إذا لم تسلم على بعضهم بالدكترة؟ لم يدكتر طه أحدًا، وقد أحسن، ولكني لا أدري كيف كان يكون، لو قابلوه بالمثل؟
وسأله الأستاذ عانوتي في الإذاعة اللبنانية: بماذا يوصي الشباب المتأدبين: أوصاهم بالتأني؛ أي بالإعداد الطويل، فهل فعل هو شيئًا من هذا في كل ما سمعناه منه في لبنان وسورية؟ لقد صح فيه وفينا قول مثلنا اللبناني في الضيف الرخيص: أطعمناه من حواضر البيت.
وتعرض الدكتور في حديثه «مستقبل الجامعة» لقضية المعلمين ورواتبهم الضئيلة التي كانت لا تكسو ولا تشبع، فحسنها يوم استورز، فرنَّت كلمته وطنَّت في أذن معلمينا، وكانت دعوة النقابة لتكريمه، فأفاض في تلك السهرة في وصف ما أمن للمعلمين من معاش يرفه عنهم ويحملهم على خدمة النشء خدمة نصوحًا، فطابت النفوس ونام المعلمون تلك الليلة على سرور.
ثم كان تحليف الحكومة لفريق منهم، فتذكرت سنة ١٩٠٨ عندما كانت الحكومة العثمانية تحلف زعماء القبائل والطوائف يمين الإخلاص للدستور. لست أدري — والله — ما قيمة هذا الحلف الذي لجئوا إليه، ترى ألم يعرف داود أن خبز التقدمة لا يحل له؟! ومع ذلك أكله لما جاع.
وبنو حنيفة صنعوا صنمًا من حيس؛ أي تمر، وأخذوا يعبدونه، ولكنهم لما جاعوا أكلوا ذلك الإله. إن الخبز الكافي والثوب الوافي والبيت الدافي تغني عن ألف يمين.
أما قال الشاعر الصعلوك في ذلك الزمان مخاطبًا زوجته أم عامر يوم ساقوه إلى ديوان الأمير لأنه سرق كيس طحين:
كان عندنا «ظابطي» عرف بالآغا، والآغا في ذلك الزمان كان قاضي تحقيق، فوقع على مذنب يعرف أن ذمته واسعة، وكان متهمًا وليس لدى خصمه من يشهد عليه، فتحيَّر الآغا، وأحب المُدَّعى عليه أن ينقذ الموقف فقال للآغا: حلفني يا سيدي؛ فأنا مستعد أن أحلف لك أنني بريء.
ففكر الآغا هنيهة ثم التفت إليه غامزًا مبتسمًا: معك ريال مجيدي؟
فتهلل الرجل واعتقد أن المجيدي فض المشكل وأراحه من رح وتعال، وتعطيل أشغال، فقدم الريال للآغا، فأخذه ثم تفرَّس بالرجل وقال له: اطلب الريال المجيدي مني.
فقال الرجل: العفو يا سيدي، كيف أطلبه منك؟ وما قيمة المجيدي؟ خففت عني من المتاعب ما يسوى ذهبات صفرًا.
فصاح الآغا: قلت لك اطلبه مني، وبعد ذلك ترى.
فقال الرجل: طيب، هاته يا سيدي.
فقال: ما هو؟
فقال الرجل: الريال.
فقال الآغا: أنت أعطيتني ريالًا مجيديًّا؟ وحق القربان والصليب والثالوث الأقدس ما أخذت منك شيئًا.
فتعجب الرجل وقال: والو يا سيدنا!
فقال الآغا: والو يا طنوس، متى صار الآغا جحش حمار حتى يحلِّف الناس ويبرئهم بناء على كلمة يلفظونها؟ هذا ريالك؛ خذه. رُح هيئ حالك للنوم في بيت خالتك.
هذه قصة نرويها بلا تعليق، وإذا قال أحدهم: هل صارت الناس كلها بلا دين حتى تحلف ولا تبالي؟ قلت له: إن الأمير بشير حلف على مذبح سيدة التلة، في دير القمر، هو وجرجس باز، أمام البطريرك يوسف التيان على أن لا يخون أحدهما الآخر، ثم ماذا كان بعد ذلك؟ أما فتك الأمير بشير بجرجس باز، واستقال البَطْرَك التيان احتجاجًا؟ ولكن صار الذي صار، ولم ترجع روح جرجس باز إلى جسده.
المستر كراين
على أثر الاحتلال بعد حرب ١٩١٤، جاءنا رجل أمريكي اسمه المستر كراين، وطاف في الأقطار العربية كلها، وخصوصًا في لبنان وسوريا، سائلًا الناس: انتداب أية دولة يفضلون؛ فرنسا أو إنكلترا أو أمريكا؟ وتألبت الناس عليه، وعرضوا له مطالبهم، وهكذا فعلنا نحن في أسبوع طه حسين، فبعد عرض قضية المعلمين في تلك الليلة الساهرة، هبَّ الأدباء يرفعون للدكتور عريضة استرحام طالبين، عن يده، عفو مصر عن الأديب المفكر الحر الأستاذ عبد الله القصيمي.
عرفت الأستاذ القصيمي مفكرًا حرًّا، فاضلًا أبيًّا عزيز النفس، ولكن لا بأس عليه إذا تمثل بقول أبي فراس: لولا العجوز بمنبج … إلخ، ولا بأس عليَّ إذا عجزت طه حسين، فلعله يحتدُّ ويعيد الشيخ القصيمي إلى وكره في القاهرة، وإلا قلت: هذه حكاية مستر كراين تعيد نفسها.
إن قضية معلمي المدارس الخاصة لا تحلها تصريحات طه حسين، فأولو الأمر عندنا يعرفون الأنظمة العالمية عن ظهر قلبهم، ولأمر ما جدع قصير أنفه، وإذا لم يبن رب البيت، فعبثًا يتعب البناءون.
إن جميع القوانين نُظر فيها إلا قضية معلم المدارس؛ لأن لمقاوميه ظهورًا قوية، وهو مكسور العصا، وهذا الحال يا عوكر، العالم راكض ركضًا إلى الأمام، فمن قنبلة ذرية إلى هيدروجينية، ومن مدافع ضد الطائرات إلى آلة تتناولها كما يتناول الصقر العصفور … والمعلمون، وهم مربو الأمة، سلاحهم بندق بو فتيل، والدولة ترضى منهم باليمين. أما الخبز فعلى الله، أما قالوا: إنه، جل جلاله، يخلق دودة في صخر ويخلق لها معاشها؟
فاتكلوا عليه أيها الإخوان، ولا تنسوا كلمة الإنجيل: إيمانك أحياك. اذهبي ولا تخطئي أيضًا …