قصص شامية
منذ ثلاثة أشهر تناولت هذه المجموعة من القصص، وفي الكلمة التي قدمها بها الأستاذ محمود تيمور لقراء العربية قرأت: إن كاتبة قصصية قد بزغ نجمها في أدبنا العربي الحديث، وإن هذا النجم قد أخذ يبعث في عرض الأفق ضوءه الوادع اللماح.
قرأت هذا فتذكرت أنني قد تعرفت إلى السيدة إلفة الأدلبي في الأثير، والأذن «تعرف» قبل العين أحيانًا، فمنذ ثلاث سنوات نقدت «على الطائر» أقاصيص أذاعتها من محطة الشرق الأدنى، وأذكر أنني استحسنتها وسألت كاتبتها أن تسير في طريقها وتصور لنا هذه الزوايا، فنحن في حاجة إلى الاطلاع عليها. إنه لون محلي لا يزال بِكرًا يحتاج إلى قلم يصوره. وما زلت أذكر تلك القصة التي تصور لنا المرأة القلقة المضطربة في براثن الطلاق، ولا يعلم إلا الله ما يكون مصيرها. ولما شرعت في قراءة هذا الكتاب تذكرت جيدًا أن القصة الأولى وعنوانها «الستائر الزرق» هي التي سمعتها قديمًا، وإنما بغير هذا العنوان، وأذكر، على بعد العهد، أنني تمنيت على السيدة إلفة أن تتوغل وتبعد ما استطاعت في تصوير محيطها، وها هي قد فعلت مدفوعة من طاقتها الفنية، لا لأني قلت لها: افعلي.
أنا لا أطلب منها أن تحدثنا عن سمكة صياد همنغواي؛ ففي بحر حياتنا ومجتمعنا حيتان ونينان علينا أن نطاردها في الأعماق، حتى إذا ما فرغنا من عملنا المحلي نفتش، بعدئذ، عن غيره في أعماق البحار ومطاوي البيد والقفار.
ولا أطلب من القصصي والقصصية أن ينحوا نحو سارتر ووجوديته، فنحن موجودون كل على ذوقه … إن من حق هؤلاء الأبطال الخاملي الذكر أن يدخلوا ملكوت الأدب ويكونوا أبطال أقاصيص، أليسوا هم الحجارة الخام في بناء مجتمعنا الشرقي؟
إن أرضنا بور، يا سيدتي، فلنحرثها أولًا، ثم ننقل سكتنا إلى الأراضي المجهولة، إلى الأرض الموات لنحييها وتصير لنا. إن أساطيرنا، وكل بلد فيه منها ما يكفيه، تحتاج إلى من يحييها، وفي إحيائها أدب جم ومواضيع طريفة، ولندعُ للغائصين إلى الأعماق بالرجوع سالمين من أسفارهم الطويلة.
أنا أؤمن بالذاتية قبل كل شيء، وقد رأيت السيدة إلفة ذات ذات، فقلت كلمتي فيها منذ أعوام ثلاثة، وحسبها في كتابها هذا أنها فتحت طاقة تطل على البيوت الشامية، فصورت بعض نواحٍ من نواحينا الشرقية.
تصور لو أن السيدة إلفة عملت حكايات كغيرها لا تصلح لمكان، وتصلح لكل مكان؟ فخير للكاتب أو الكاتبة أن يكون له غرفة، بل كوخ من صنع يديه، من أن تكون له دارة بالأجرة.
فعلى هذا الأساس بنيت تقديري للسيدة إلفة الأدلبي، وهنا نقرر للأستاذ تيمور إصابة ثانية وهي قوله: فلا ريب أن القصة في أول الأمر وآخره أدب، والأدب ألوان، والحظ العظيم فيه لإمتاع النفس برقة الحديث، ولطف المناجاة، وعذوبة السمر.
وأنا أقول: إننا لنسمع الحكاية عينها من شخصين، فنستلقي على ظهورنا من الضحك حين نسمعها من أحدهما، ونضحك مستهزئين حين نسمعها من الآخر. إن الأديب لا يفرض عليه الموضوع كما يفرض على أحداث في المدرسة، بل يترك وشأنه، فإن أخرج للناس ما يُقرأ، استحق الإعجاب، وإلا فهو لا يفوز إلا بقلب الشفتين والاستبعاد.
إن موهبة القص متوافرة للسيدة إلفة، ومن أقاصيصها الشامية السبع عشرة يعلم حقًّا أنها تستحق أن تحمل هذا الاسم؛ لأنها لم تعالج إلا مواضيع محلية. لقد كنا في حاجة قصوى إلى مرآة تصور لنا أعماق نفسية المرأة وبدواتها ونزواتها وأمانيها، وإذا بنا نعثر على الكثير منها في هذه الأقاصيص الطريفة. والآن فلننظر فيها بقدر ما يسمح لنا المقام.
ففي قصة «الستائر الزرق» تصور لنا سيف الطلاق المصلت فوق رأس بطلة هذه القصة، ثم كيف كان الزوج طيبًا فعرف أن يدين نفسه قبل أن يدان. رأى أخيرًا أن لا يستبدل بقرقورته الداجنة غزالة آبدة، أدرك أنه، وإن كان بلا عقب، ليس عليه أن يفلت من قفصه عصفورة جوية لتحل محلها عصفورة برية.
هذا تلخيص، والتلخيص يقتل الفن، فنصيحتي للقارئ أن يطالع هذه القصة، فهي الأولى في المجموعة مرتبة وفنًّا. لقد شعرت إلى أبعد حدود الشعور بما في قلب أم الستائر الزرق من حسرة تقتل أغلظ الرجال كبدًا. والفضل في هذا لحسن التصوير وسهولة السرد والسياق، ولو كان زوجها ذهب في تنفيذ فكرته إلى أبعد الحدود لما كان للقصة هذا الوقع في النفس.
وفي قصة «القرار الأخير» ترفع السيدة إلفة أختها المرأة من الوهدة التي كادت تقع فيها. وهنا لو تعمقت الكاتبة في وصف هذا الصراع النفسي لجاءت قصتها تامة، ولم تكن دون الستائر الزرق عمقًا، ونجت من هذه السطحية. أنا لا أطلب منها تطويلًا مملا كحديث صياد همنغواي مع السمكة، ولكني وجدت القول ذا سعة في معركة فاصلة في الحياة، وهي لم تصف لنا غير القشور، أما اللباب فظل بمأمن لم يمس.
و«مهدي أفندي» قصة قاضٍ حكم بطلاق امرأة ليأخذها، وصف جميل وواقعي لملاحقة الشباب للنساء، ووصف شعورهن وحركاتهن.
وقد أعجبتني فيها فجوة هي من خصائص الموهوبين والموهوبات، فببراعة فائقة أفهمتنا أن القاضي حكم بالطلاق، ثم عاقبته على جوره بتزوجها بعد شهور قلائل من القزم الدميم، ولولا هذا التفصيل لما فقدت القصة شيئًا من جمالها. لقد أحسنت في تلك الجمزة في قلب القصة، أما ختامها فأفقدها كثيرًا من الزخم.
إن السيدة إلفة في استهلال قصتها أبرع منها في ختامها، ولعلها تحب التفاصيل ولا تريد أن تترك مطامير للقارئ، إن القارئ، أجلَّه الله، يجب أن يكون قوي حاسة الشم لنبش ما يُخبَّأ له، والكاتب القصصي يجب أن يحسن التخبئة شرط ألا تكون تعجيزًا.
أما «قصة انتقام» فليست من بابة أختيها السابقتين، وفيها إهمال لتصوير بطلها ومحيطها، ولكنها تفهمنا أن الرضاعة مانع مع الزواج كالعراب «الكفيل» في المعمودية عندنا.
أما قصة «كان سيئ الخلق» ففيها الإطار الجميل والحوار البارع بين زوجين شيَّخا وقعدا يقلبان دفاتر حياتهما العتاق، ويذكران أيام العز والنقار، والختام هنا موفق.
وتأتي قصة «أبو شيخو»، وهي من أساطير البلدة. إن الكذبة الملفقة البينة كالعنزة البلقاء لا تستأهل هذا التأسف في آخرها على موهبة خيال أبو شيخو المدفونة في قبر الفقر. فأبو شيخو هذا من الفئة التي كان يسمي والدي صاحبها نصف كذاب؛ لأنه يقول ما لا يصدق، والجاحظ كان يقول: إن مثل هذا الحديث لا يعجبني؛ لأننا إنما نقول ما يمكن تصديقه.
أما «ثوب سلمان» فقصة بليدة السيرورة وغريبة التصوير، وأديب لا يفرق بين الفسطان وقميص نوم أخيه سلمان هو أبله.
وقصة «كاسات معدودات» تصور لنا لونًا محليًّا صارخًا في حوادثها وتعابيرها الحوارية، فهي قصة شامية لونًا وطعمًا، وفي «مرآة خالدة» تصور لنا عداوة المرأة للمرأة متى مالت شمس العمر وشال الشباب في الميزان. إن السيدة إلفة قد أفادت القصة العربية جدًّا في حديثها عن أطوار المرأة وما يتعلق بها. ومن أدرى بالمرأة من المرأة؟
وحين قرأت قصة «يوسف عيد» قلت: هذه أقاصيص كنا في حاجة إليها؛ فهي تصور لنا كيف أنه عند كل ملة ما يكفيها، فهذا الشيخ يكتب لامرأة حجابًا لتلد ذكرًا بعدما نكبت زوجها بسبع بنات، واشترط أن يسمى يوسف، ولما ولد يوم العيد ووقع خلاف بين الأبوين على تسميته، جاء الشيخ ليقبض المؤخر من الجعل، وسماه يوسف عيد دفعة واحدة، وكما ولد يوسف عيد بأعجوبة، كذلك نجا من الموت بأعجوبة لإيمان أمه القوي، وانتهت القصة بسلام، وهي بين بين.
لقد تعبت من التلخيص والتعليق، فلنمر مرة عابرة، كما هو عنوان كتابنا. استكبرت على المرأة في قصة «لو ينكسر الحديد» أن تقتل عملاقًا بضربة فأس فتحطم جمجمته، ولو كانت هيَّأتها بالوصف لتؤهلها لهذا البطش لهان، ولكننا لم نعرف شيئًا عن سحنتها.
أما ختام قصة «كلام رجال» فأعجبني جدًّا، وفي قصة «الآغا أبو الدب» رأيت السيدة إلفة «تقدمية» كما يقولون اليوم، مع أنها بنت باشا. فحياها الله على تضحيتها هذه وفركها أنف الآغا الصخري القلب.
وفي قصة «الدرس القاسي» وصفت لنا ببراعة ما يثير الرقص في نفوس الأزواج من غيرة حامية الوطيس، ولكن رابني أمر ذاك الحوار الطويل الذي ساقته السيدة إلفة بين السيدة والشاب الذي تراقصه على مرأى من زوجها، فهل هو ممكن الحصول؟!
إني رأيته قد طال، وإن كنت لا أعرف شيئًا عن الرقص وما يجري ويدور أثناءه، ثم هب أنه ممكن، فهل يقال في ذلك الموقف أكثر من جمل قصيرة جدًّا؟ فقد رأيت جملًا لا يحتمل المقام طولها.
وفي القصة الأخيرة «أمجرم هو؟» صورت لنا خفة عقول الأدباء حين تبتسم لهم فتاة، فيحسبون أنها وقعت في هواهم ولو كانوا من عمر جدها.
والخلاصة: إن في هذه الأقاصيص الشامية دروسًا اجتماعية تمليها علينا الحوادث القصصية غالبًا، وأحيانًا تتولى السيدة العمل بنفسها فتظهر شخصيتها. وهذا ما لا يقره الفن.
إن موهبة القص متوافرة عندها، وفي الاستطاعة أن يكون الحوار طبيعيًّا أكثر، وكذلك سلامة العبارة من الضعف النحوي واللغوي. وهذا يكتسب بالمران؛ فإلى الأمام يا سيدتي الأديبة.