الدم الأزرق: دزينة مسرحيات
أول ما قام المسرح على ساقه كان ذلك في لبنان منذ قرن وأكثر. أما لبنان اليوم ففقير إلى رحمة رب هذا الفن. كنيسة صار بيت مارون النقاش أبي المسرح العربي، ولكن المعاهد العلمية والجمعيات الأدبية ثبتت عمله ومضت به إلى المدى الذي وصل إليه. أما اليوم فصرنا نسمع التمثيل ولا نراه؛ فبفضل الإذاعات صارت الروايات تمثل قرب مضاجعنا فيأتينا رزقنا الفني رغدًا، وإن كان قيل: ما راءٍ كمن سمعا.
أمامي الآن مجموعة تمثيليات الأستاذ فؤاد قاسم الطيبة، وإذا كانت مهمة الناقد أن يكتشف، فأنا أزعم أنني اكتشفت نجمًا مسرحيًّا جديدًا. كانت المدينة في حاجة إلى مسرحي يعالج شئونها وشجونها، وها هو فؤاد قاسم قد برز لها كما برز للقرية من قبل الأستاذ سعيد تقي الدين في «نخب العدو» و«المنبوذ»؛ ففي «الدم الأزرق»، و«أخبار سارة»، و«صحون طائرة»، و«مشروع زواج»، و«ملح الكلام»، و«بعد عمر طويل»، و«المزين أنطونيو»، و«بنت نديمة هانم»، و«ما ليس بالحسبان»، و«الورد جميل»، صور مدنية بيروتية كنا في أشد الحاجة إليها في أدبنا، وها هي قد برزت مجلوة كالعرائس.
قدم فؤاد قاسم أوراق اعتماده إلى دولة الأدب بكل تواضع، غير مبال بمدير تشريفات يرافقه، ولا بحرس يؤدي له التحية وينشد النشيد الرسمي.
هذه مجموعة من التمثيليات الإذاعية المسرحية المستمدة من صميم الواقع، أقدمها وأنا موقن أنها خطوة لا بد منها لتعزيز هذا اللون من الأدب الذي ما فتئ المسرح العربي محرومًا منه، والذي تنشده دور الإذاعات العربية باعتباره عنصرًا رئيسيًّا من عناصر برامجها المتصلة بثقافة الجمهور، وإشاعة المسرح بين طبقاته. لست أدعي التوفيق، ولكني أؤمن بأني وضعت لبنة في بناء أرجو أن يتكامل.
لا تتواصع يا أخي، والله لقد وُفقت جدًّا، يقول مثلنا: الرجال مخبأة في ثيابها، وها أنت قد طلعت علينا بطلًا مسرحيًّا يسير في الطليعة. هذا حدث جديد في أدبنا العربي يستحق أن يؤرخ، وإذا كان قد أذيع شيء من مثله؛ فلهذا لونه وطعمه ونكهته، والمآدب العظمى تحتاج إلى ألوان مختلفة وطعوم شتى. لقد زاد فؤاد قاسم على ألفباء بلد الحرف حرفًا واحدًا هو هذه التمثيليات. سماها هو خفيفة، أما أنا فرأيتها، فنيًّا، من العيار الثقيل. إنها سندويتش بالنسبة للمطولات، ولكن فيها الغذاء الكامل، والطعم اللذيذ، والنكهة المنبعثة من شخصية واضعها. ما حسبت قط أن عند فؤاد قاسم مثل هذا «البتع»، ولم يتغير رأيي فيه إلا عندما قرأت بعض تمثيلياته في مجلة أهل النفط الراقية، حيث وقعت على سخر وهزء ناعمين، ورأيت مبضعًا يشق دمامل المجتمع وهو في غنى عن البنج.
فالأستاذ قاسم، في هذه التمثيليات فنان كبير. إنه لا يحاول خلق مادة موضوعه، ولكنه يلتقطها من هنا وهناك، من البيوتات، من الطرقات، من الجادات، من دار الإذاعة اللبنانية التي هو رئيس مصلحتها، وأحيانًا من الكتب كما في تمثيلية «من وحي جبران».
هو كاتب واقعي خالص يصور الواقع بأجلى صوره، وبالألفاظ الجديرة به، الموصلة إلى الغرض. إنه لا يسجن الصور في حبس الدم، في تلك الألفاظ التي لفظت روحها منذ قرون، بل في ألفاظ تختلج الحياة في عروقها.
إن جميع كلماته وتعابيره تريك العمل الذي يريده على الورق، وبصورة يفهمها المتأدب والأمي، ويعجب بها الأديب الفنان؛ فهو يعبر عن رأيه بما يصوره لنا من خطوط ناتئة في رسوم أبطاله دون أن تظهر شخصيته، فكأنه لا يعنيه شيء من شخوصه، وكأنهم يتكلمون هم ولا يد له هو فيما يعملون، فيروحون ويجيئون على الهينة ولا حاجب ولا بواب.
ما رأيته يصفهم لنا، ولكن صورهم تظهر واضحة جلية من خلال أقوالهم وأعمالهم. وهذا هو الفن الرفيع، فكأن فؤاد قاسم سكرتير عند هؤلاء الناس ينقل بأمانة ما يملونه عليه؛ ولذلك لا تحس بوجوده أبدًا، وكأن شخوصه جماعة يتمتعون بحرية غير منقوصة، فتكاد تحس حركتهم من خلف المذياع واضحة جلية، وهي كما يريدون هم، وكأن ليس هناك كاتب يعنيه أمرهم، كأنه تابع لهم لا خالق، ينظر إليهم بابتسامة قلما يزيد عرضها عن الميليمتر.
ألو، دكتور رشدي، مساء الخير. أشكرك. لا. صحة «سموه» تنهار رغم أنه ينام بهدوء، إلا أن هناك أعراضًا مريبة تبدو عليه، نعم مريبة … أسقط بيني وبينه كل كلفة؛ هدم الإتيكيت ونسف البروتوكول، صار بيتنا فوضى يا دكتور، وهو فوق ذلك يتحدث عن الماعز والبقر، ويهش علي كأني عنزة. أرجوك، لا تهزأ ولا تطيب بخاطري. أعتقد أنك أنت السبب في كل ما حصل … نعم أنت، أي نوع من الدم أعطيته يا دكتور؟ دم فلاح! عرفت ذلك، بل اكتشفت الشرك الذي أوقعت فيه أرستقراطية هذا البيت العريق؛ دم أبو إبراهيم الأسطواني؛ أقوى فلاح في البلد! ألم يبق في الأرستقراطية دم تعطيه لأصحاب السمو؟ ألم يبق هناك دم أزرق؟ يا الله، الطب، العلم؟ الكرويات الحمر … ماذا تريد أن تعطيه بعدُ؟ دم أحد عمال المصانع؟ لا … أرجوك. أعصابه منهارة. فليكن … دمه ضعيف؟ أمرنا لله. لن أسمح لك بإعطائه ذرة واحدة من الدم بعد اليوم حتى ولو كررته؛ مريض أرستقراطي خير من سليم شعبي ديمقراطي.
وهكذا يسير بنا الأستاذ قاسم في جميع تمثيلياته متهكمًا ساخرًا لاذعًا. إنه من أصحاب الهزء الناعم لا من أصحاب المزاح الصاخب.
وبعد، فليس لصاحبنا فؤاد في هذه المسرحيات الصناعة البلاغية القديمة، ليس لأنه لا يقدر عليها، ولكن لأنه لا يريدها. له موهبة المسرح الفائقة، فهو لا يكتب المسرحية، بل يعملها قطعة حية فنية تمثل. كم كانت تكون أكثر حيوية لو شوهدت عيانًا لا من خلف المذياع. إن مشاهدتها تزيد في روعتها أضعاف الأضعاف.
إن تعابير الأستاذ حية، متكلمة، تسرح وتمرح، تشيع المرح في نفسك دون أن تعرف أية كلمة سببت ذلك، فهو لا يتعمد نكتة بعينها، بل لا تشعر أنه فتش عن كلمة، ولذلك جاءت تمثيليته وكأنها كلها نكتة، فلا داعي لانتظار كلمة تفقع منها من الضحك، فأنت في هذه المسرحيات كأنك تسير في أرض ملغومة تتفجر أثناء سيرك.
لا نقدر أن نشبه دعاباته بغيرها، فهي منبثقة من شخصيته التي تضحك غيرها ولا تبتسم. إن لمسرحيات الإذاعة سيرورة خاصة، وما يصلح للمسرح لا يصلح للإذاعة إلا بعد تعديل. وهذا المسرحي المطبوع قد أصاب عصفورين بحجر واحد، ويا ليت عندنا تليفزيون لتظهر لك جيدًا موهبة فؤاد قاسم وتشايعني؛ فهناك حركات يجلوها العيان ويوضحها.
وبعد، فإذا كنت دخلت غرفة المصور الفوتوغرافي السوداء ورأيت كيف تظهر الصورة على مهل، فبإمكانك أن تشبه تمثيليات فؤاد قاسم بها. إنها تتضح لك كذلك، والطرافة تنبثق من مجموع المسرحية التي تؤديها تعابيرها، لا من نكات مزروعة هنا وهناك. إنها لا تهدأ كما يحصل في بعض المسرحيات، ولكنها يتبع بعضها بعضًا بلا ضجة ولا صخب.
أنت يا أخي فؤاد قاسم مسرحي في دمك، وإن كنت قد غيرته منذ عامين، وآمل ألا يصيبك ما أصاب بطلك صاحب الدم الأزرق، فتكون حظيت بدم فلاح … فهلم إذن إلى المسرحية الكبيرة، ولست أشك أبدًا أنك تبرز فيها. أما الآن فحسبك أنك قد سددت ثغرة، وخدمت النهضة الحديثة أجل خدمة بما أبدعت من لون طريف وظريف، خفيف منعش للقلوب.
ويا قارئي العزيز، إنني أصارحك أنه ليس في الأدب مراسيم اشتراعية، والأديب والشاعر والفنان لا يعملون بمرسوم، الأمر في الأدب شورى؛ فليتك تقرأ هذا الكتاب «الدم الأزرق» وتوافيني برأيك، سواء أمعه كان أم عليه.
أما ما أقوله لفؤاد، فهو أن يترك أن ولقد وقد، ويقول الحمل بدلًا من العبء الثقيلة الدم في الحوار. عفوًا قد نسينا السين وسوف، حرفي التنفيس والتسويف اللذين يحبسان الأنفاس، ثم لن، ثم لماذا لم تقل: «وقتي» بدلًا من «آني»، فلولا المَدَّة المعروضة على ألفها لما أحسنت قراءتها ولما فهمتها؟
وعنوان «ملح الكلام» لم يعجبني، فعندنا يسمون الكذب ملح الرجال. قد يكونون يقولون في بيروت ملح الكلام لأن الكلام العامي يتغير في البلدتين المتجاورتين كما كان يتغير عند القبائل قبل وضع المعاجم.
وأخيرًا لست أدري من ألوم على هذا الكرم الحاتمي في الأخطاء المطبعية، فليتك تباشر إعادة الطبع منذ الآن؛ فحرام أن تفقد هذه التمثيليات شيئًا من روعتها.
وختامًا لك تهنئتي الخالصة، فأنت مبدع حقًّا.