ذكريات رضا التامر
هذا الكتاب سيكون له قراء إن لم يكن كان، وسيعاد طبعه لأن قراءته ضرورية، ففيه أحاديث طريفة ووصف لبيئات ما زالت غابة عذراء.
وفيه شيء طريف من تاريخ حقبة عاشها المؤلف، فوصف ناسها وصفًا دقيقًا صادقًا، وانتقدهم انتقادًا صارمًا.
قال أبو العلاء:
وفي عام ١٩١٨ توفي المرحوم شبيب باشا الأسعد عن ثروة ضخمة، وعن أولاد وزوجة كانت تصغره بالسن كثيرًا، هي السيدة بهية التامر ابنة عمي، وأراد والدي أن يوطد الصلة بيننا وبين ثروة شبيب باشا، فعقد لي على زوجته بهية التامر، برغم أنها كانت تكبرني بسنها أضعافًا، وعقد لأخي على ابنتها، ملك ناز، وعقد لابن زوجها المرحوم علي نصرت بك الأسعد على شقيقتي الكبرى زينب، وعقد لابنها نزيه على شقيقتي الثانية منيفة.
فأحكم والدي بهذا كله الصلة إحكامًا شديدًا بيننا وبين الورثة والثروة معًا، ولكن الأستاذ رضا تفككت عراه، فماتت الزوجة بهية حين كان آل الأسعد ثائرين مشردين، وكانت هجرة «رضا الفاتح» كما سموه حين أمَّ باريس ليتخصص، سمي كذلك لأنه أول شيعي عاملي قصد الغرب للتعلم … قعد الأستاذ في الحي اللاتيني، وحَمام هذا الحي ليس كحمام مكة صيدهن حرام، فهن يقعن عليك ويقلن لك: تصيدنا، كما فعلت برضا «نجمة الأولمبيا»، ثم جاءت بعد حينٍ تضرب «صدرها» وتشير إلى بطنها قائلة له: هنا شرقي صغير.
ولكن الأستاذ لم يقع في ذاك الفخ، بل تنصل وقال: ربما، لكنه ليس وائليًّا.
وصح في هذه السنيورة قول المثل «حبني غصب»، فطاردت رضا، ولكن هذا «الشرقي الكبير» كان داهية في بيته، كما كان فيما بعد داهية في نشاطه السياسي هناك، ثم في وظيفته واستنطاقه هنا. اقرأ مقال «أما مستنطق حمار» لترى أن هذا المستنطق كان قادرًا على سحب الحية من الحيط. كانت له وقعات مشهورة في هذه المعارك، وقلما خسر معركة منها كما ترى في باب «ربع قرن في خدمة القضاء».
كم تمنيت على المحامين الأدباء الملهمين أن يعالجوا الأقاصيص القضائية ولم يفعلوا، ولكن القاضي الكبير رضا التامر شفى نفسي وأبرأ سقمها. لست أزعم أنه كتب أقاصيص، ولكنه كتب ما يشبهها.
ترى ما هي الأقاصيص؟ وهل كل الأقاصيص يجب أن تكون مصنوعة من طراز واحد؟ لا! إذن فهذه الحكايات القضائية لا ينقصها إلا التحليل النفساني المكلف حتى تكون القصة بعينها. وهذا القاضي الناجح يقول لك في باب عرض كتابه: ليس هذا الكتاب قصة أو تاريخًا أو بحثًا، وإنما هو صور مني مدى العمر سكبتها سكبًا سهلًا في فترات متشابكة.
الكاتب عارف أنه سهل الأسلوب يكتب كإنسان، لا كأديب متعمل يريد أن يخلق شيئًا من دماغه، ودماغه لا يجود عليه بما يريده. فهنا في هذه الذكريات تجد البساطة التي تخلق الجمال؛ لأن عند صاحبها نفسًا توحي، وقلبًا يطيع. إن أسلوبه هو السهل الممتنع حقًّا، وحسبك أنني قرأته في يوم فراغ من الجلد إلى الجلد؛ من رضا التامر العنوان، إلى رضا التامر التوقيع. إنه سيرة حياة تكاد تتحرك، ينقلك صاحبها إلى مسرحه؛ وقد أعطانا إياها كما تعطي الزهرة عطرها بلا تمنين ولا تبجح ولا غرور. وهو كتاب هذا العام في بابه وأسلوبه.
كان التامر قبل أن يشب عن الطوق مجاهدًا يحمل البندقية ويكر ويفر، ثم استحال في باريس مغامرًا فاتكًا كما شهد له مَن شهادته بألف حين قال في تقديمه لقرائه: ذكريات باريس دلت على أنه أصبح في شبابه أوفر حظًّا … من هذه الناحية، والفضل ما شهدت به الخبراء.
ولكنه لما عاد من باريس وصار قاضيًا أعطى جبة القاضي حقها من الترصن والوقار والنزاهة، وإن كان في طور المحاماة لم يتورع عن الواسطة والتوصية كما يعترف في ص١٤٤ وما يليها.
إقطاعية جهلاء
كان العامليون ينوءون تحت نير قاسٍ تجره عليهم مشاكل الطائفية والإقطاعية، وأعني من جملتها إقطاعية عائلتنا … تلك الإقطاعية الجهلاء التي لا تمت إلى التقدم والتوجيه الصحيح بأية صلة … بل إنها كانت تنحصر بإرضاء الشعب بأمور تافهة لا تمت بشيء إلى عزة النفس، وحرية الفرد، واحترام الإنسان؛ لدرجة أنه كان من المستحسن أن لا يجلس ابن الشعب في «صالون البيك»، بل وكان هذا الشيء محظرًا على الفلاح، ولا يجرؤ على تخطي هذه الحرمة إلا إذا سمح له، بعد إذن خاص. وصاحب الحظ الذي يحظى بهذا الإذن ويسمح له بالدخول ليلثم يد البيك يصبح بعد مدة من الزمن وجيهًا في قريته ومنطقته، محترمًا من أفرادها، تشير إليه الأصابع كرجل محظوظ محترم يدخل بيوت البكوات …
إن مجتمعًا هذه حاله لا يمكن له أن يتكلم عن إحساساته بمثل هذه الصراحة، وخاصة لرجل مثلك يا حضرة الكابتن، بصفتك صاحب الأمر في هذه المنطقة، خاصة وأنت المعني رسميًّا بجميع هذه الشكوى والتأففات، وتلك الإحساسات والانطباعات.
بقي أن نتحدث عن الانسجام في هذا الكتاب، فكاتبه ينقلك بسهولة ولباقة من قصة إلى قصة لم أر مثلها طواعية في سيرة حياة كاتب بقلمه، أفاده الاغتراب والمعاشرة والتحقيق القضائي علمًا بخفايا النفس الإنسانية، فجاء يعرض علينا تأثراته عرضًا فنيًّا سهلًا. اقرأ «خيانة البشر» صفحة ٢٥٢ لتعلم أن هذا القاضي كاتب أديب لم يتأثر بلغة الدواوين والقضاء. وقد فتشت كثيرًا فما وقعت إلا على هنات هينات سأذكرها في نهاية هذا المقال.
وفي هذا الكتاب تاريخ الثورات على الانتداب الفرنسي منذ كان، وقد كان لأسرة المؤلف العريقة يد طولى في هذه المقاومة، فشقوا وشردوا واضطهدوا، كما أن فيه وصف حياة شبابنا في أوروبا المقسمة بين العمل والقلب وجميع الحواس …
وفيه أيضًا ما يحقق المثل القائل: البغض بين الأقارب، والحسد بين الجيران، وإن أعداء الرجل أهل بيته كما قال الإنجيل، وفيه أوضح عرض وأصدقه لسياسة المستشارين الفرنسيين، كما فيه إنصاف وتمجيد لنزاهة القضاء الفرنسي، وفيه تاريخ وجيز لجبل عامل الذي سميته أنا بحق جبل العلماء.
كل هذا مكتوب بفن تحسه ولا تدري أين هو. أنا لا أمالئ هذا القاضي ولا أحابيه؛ لأني لا أعرفه. إنه لصادق بحق، له أن يخاطب قارئه بقول النابغة:
إن رضا التامر يدخل في كتابه إلى حصن النفس الإنسانية، ولكن من غير الطاقات والشبابيك التي يدخل منها غيره من المتكلفين؛ ولذلك لذت قراءة كتابه من اطلعوا عليه؛ فشكرًا لمطبعة الآداب الحديثة على هذا الإخراج المشرق الأنيق الذي سهل لعيني السبيل إليه.
وأخيرًا، لا بد من حكم على شخصية هذا الأستاذ المحنك، وإن كان قد تعود هو أن يحكم على الناس. إنه حكم غيابي، ولكني أظن أنه صادق: من مطالعة كتابه هذا، ومن ماجريات حياته كلها، كما وصفها لنا، بدا لي أن الأستاذ رضا التامر يعرف جميع أسرار «المسلك» حتى أعمق خفاياها «يعرف يدبر حاله» كما يقول العوام.
أما الهنات التي وعدت أن أدل عليها — وإن أغضب ذلك من يهزءون بها ويعدونها ترهات — فهي لا شيء في كتاب نيفت صفحاته على الثلاثمائة.
قال: أطبق بنا الظلام. وتعدية أطبق بالباء تنظر إلى قول العوام: طبق فيه.
بعثنا بأحدنا متنكرًا. وهذا الفعل لا يُعدى بالحرف حتى كان المبعوث وحده.
نحوًا من خمسمائة مترًا. ولعل نصب مترًا نصب خطأ مطبعي.
وأرخت الأيام على الحادث سدالها. ولعل همزة سدالها ساقطة أيضًا سهوًا، فسدل لا تجمع سدال، بل أسدال وسدول.
وقال أخيرًا: وطلبت إليه ما إذا كنت أستطيع إلخ، فهذه «الما» هنا من أساليب لغة أصحاب الروب.
والذي لاحظته أنه ليس في هذا الكتاب البديع تعبير عتيق إلا قوله: امتطينا السيارة …
عفوًا يا أستاذ إذا تنطست معك، فهذا طبعي، وإني لأضن بمثل هذا الكتاب الذي لم يعمل مثله من بعد فارياق أحمد فارس الشدياق، وحسبك هذا.