تاريخ العرب
الجزء الأول
وهذا رسول جديد يذيع مجد الأمة في العالمين، بل هذا ابن بار يعرف كيف يحب أمته فيجلو للعالم تاريخها العريق، فالدكتور حتي أرى الدنيا في تاريخه وجه الأمة السمراء الجميلة النبيلة، ونظف صرح تاريخها من عناكب الأساطير، فبعد أن كنا منه:
إذا بنا نقرأ تاريخًا للعرب شاملًا جامعًا بعيدًا عن الغرض والهوى، يتحدث فيه مؤلفه مُوفِّقًا بين عقله وعاطفته وعلمه، فلا تشيل كفة ولا ترجح أخرى. كنا نحسب صحراء العرب جافة يابسة، فإذا بهذا التاريخ يرينا أن المدنيات الأولى قد نبتت في تلك الرمال الصفراء، وأن أولئك البدو الذين كانوا يخوفون الصغار بهم، كما قال الريحاني، هم سلالة لها أبيض يد على البشرية، والفضل للمتقدم.
يفهمنا تاريخ العرب للدكتور حتي أن شبه جزيرة العرب لا تقل مساحة عن ربع أوروبا وثلث الولايات المتحدة، وأن فيها جبالًا يبلغ علوها ٣٧٦٠ مترًا إن لم يكن فيها ما هو أعلى من هذه. وقد قال فيلسوف الفريكة في كتابه «ملوك العرب» حين رأى بعينيه تلك الأرض: «هناك مشهد من الجبال والأودية رائع مدهش مخوف يهمس ربه في أذن الإنسان: لا تكن مكابرًا ولا فخورًا. لا أظن أن في سويسرا مثل المشهد الذي ينبسط بل يتراكم أمامك في اليمن. فما هول المسافات والشواهق بشيء عند هول الوهاد والأعماق. لبنان! نعم ذكرت لبنان، ولكنه وإن فاق بوعان وشبام علوًّا، فهو يضيع في جبال اليمن وأوديته المترامية الأطراف.»
لم يدع الدكتور حتي شيئًا مما يتوق الباحث إلى معرفته، حتى كاد يلم بكل شيء، وكان في مواقفه جميعها يزيل الإبهام ويقرب التاريخ من العقل، فحدثنا عن دستورية الجاهلية، وعما عرف العرب من حضارة ومدنية وثقافة، فكانت لهم الزوايا الراسخة في بنيان الحضارة. وقد كان الأستاذ لبقًا جدًّا، فحافظ على «علمية» التاريخ، وحدثنا حديثًا رصينًا عن الأمجاد التي نتغنى بها، فأرضى نفسه وأمته والعلم.
روى مقتل عمرو بن هند كالواثق من صحته، ولم ينف تلك الأسطورة المنسوجة حول طرفة بن العبد ولم يثبتها، وكذلك روى خبر حلة امرئ القيس المسمومة، وقد قال حين تحدث عن المعتقدات الجاهلية: أما فكرة «الآخرة» فإننا لا نجد في الأدب الجاهلي إشارة واضحة إليها.
ولقد لفتت نظري لباقته حين تحدث عن هدم قصر غمدان، فقال: «ولعله هدم في أثناء العراك الذي نجم عنه استقرار السيادة الإسلامية في اليمن.» مع أن الجاحظ خبرنا حين تحدث عن خلود الكتب قائلًا: والكتب بذلك أولى من بنيان الحجارة؛ لأن من شأن الملوك أن يطمسوا على آثار من قبلهم، فقد هدموا بذلك السبب المدن وأكثر الحصون، كذلك كانوا أيام العجم وأيام الجاهلية، وعلى ذلك هم في أيام الإسلام، كما هدم عثمان صومعة غمدان، وكما هدم الآطام التي كانت بالمدينة.
ووفى المؤرخ الإسلامي حقه فأعلن «أن بين كل ستة أشخاص أو سبعة في عالمنا اليوم واحدًا من أتباع محمد، وأن دعوة المؤذن إلى الصلاة تجلجل في معظم ساعات اليوم مطوقة الشطر الأكبر من الكرة الأرضية، فتتألق على هامة العرب تلك الهالة الوهاجة التي تقترن دائمًا بأسماء الفاتحين العالميين، فلقد استطاعت هذه الأمة في مدى قرن واحد أن تنشئ دولة عظيمة واسعة الأرجاء بسطت سلطانها من شواطئ المحيط الأطلسي إلى تخوم الصين، وفاقت على إمبراطورية روما في أوجها.» ثم أيد كلامه هذا بما نقله من كلام مؤرخ شهير هو هوغارت الذي يقول: «استطاع العرب أن يكسبوا إلى دينهم ولغتهم وشكلهم عددًا من أبناء هذه الأمم ما استطاعت أمة قبلهم أو بعدهم أن تكسب مثله وتهضمه، ولا نستثني من ذلك اليونان ولا الرومان ولا الأنكلوسكسون ولا الروس.»
ولا يهمل الدكتور فصاحة العرب فتحدث عنها تحدث الأديب العارف فقال: «ولا ريب أن انتصار الإسلام، كان إلى حد ما، انتصار لغة، أو بالأحرى انتصار كتاب.» ثم يرى أن اللغة العربية قد بلغت قمة فيلولوجية شامخة نظرًا لاتقاد مخيلة العربي ونبوغه في أساليب الكلام، فكأن دكتورنا يدحض بهذا القول رأي «أوليري» القائل: «العربي ضعيف الخيال جامد العواطف.»
إن قفاز هذا الجرَّاح ناعم جدًّا، فتأمَّل كيف يقول حين يلوم: «إن التوسع العربي المنقطع النظير قد بلغ من النمو حدًّا جعله إمبراطورية مترامية الأطراف كإمبراطورية الإسكندر، وكان مثل الخليفة في المدينة — مركز هذا التوسع — مثل رجل وُكل إليه أن يضبط سيلًا متدفقًا أخذت تتزايد روافده وتكثر مياهه، بحيث تعذر عليه توزيعها، أو التحكم في مجاريه.»
أما كلمة «رحمنان» التي استوقفت الدكتور فقال: إنها تسترعي اهتمام الباحث؛ لأنها أصبحت فيما بعد الرحمان في لغة قريش، فهي في نظري لفظة سريانية «رحمونو»، وإخال النون الأولى زائدة، اللهم إذا لم تكن ضميرًا للمتكلمين. إن في اللغة السريانية ألفاظًا كهذه لا تحصى صقلها الذوق العربي، وأحالها من ضم إلى فتح فخفت على اللسان، وحسن وقعها في الآذان.
ولا بأس علينا إن تعرضنا أيضًا لعبارة أخرى من رقيم وجده العالم «دوسو» في حوران، وهو مكتوب بالخط العربي الأول. أما العبارة فهذه هي: «تي نفس مر القيس بر ملك العرب كله ذو أسر التاج.» وقد نقلت إلى لغتنا اليوم هكذا: هذا ضريح امرئ القيس ملك كل العرب صاحب التاج.
لست أدري من أهمل كلمة «بر» التي معناها ابن في السريانية، ثم كلمة «ذو» وهي اسم موصول بلغة بني طيء، والشاهد على هذا قول شاعرهم أبي تمام:
ثم لفظة «أسر» — وهي سريانية أيضًا — ومعناها تقلد. فإذا صح ما نزعم صار التعبير هكذا: هذا ضريح امرئ القيس ابن ملك كل العرب الذي تقلد التاج.
الجزء الثاني
وها هو الجزء الثاني من «تاريخ العرب» المطول لعلامتنا الأستاذ فيليب حتي، تلحقه دار الكشاف بأخيه، متزيًّا بزيه الأنيق، حاملًا الرقم المتسلسل. يتحدث المؤلف البحاثة النزيه في هذا الجزء عن الدولتين الأموية والعباسية، فيرى في معاوية مثال الملك العربي. يتناول دولة هذا الملك وعماله وحملاته على البيزنطيين، وإنشاء كل ما تحتاج إليه الدولة الحديثة العهد من جيش ومنشآت بنائية، وفرض لغة الحاكم على الخاضعين له من الموالي وغيرهم، ثم يتكلم عن مناحي الحياة الفكرية ومجاريها في العصر الأموي، فيتحدث عن العلوم اللسانية والأدب والشعر والتربية والتعليم والخطابة، ويتناول بحثه العلم الصرف كالكيمياء وغيرها، ثم يصف الفن المعماري فيحدثنا عن قصور ذلك الزمان ومساجده، فيجسد أمام أعيننا حقبة مجيدة من تاريخنا العربي.
وينتقل إلى الدولة العباسية فيرى في أبي جعفر المنصور مؤسس الدولة الحقيقي، ثم يصف العباسيين في عصورهم الذهبية، فيحدثنا عن علاقاتهم بالغرب واقتباسهم الثقافة الهيلينية عن طريق الترجمة التي أيقظت الأفكار فحركت العقلية العربية؛ فعملت بإمعان في حقل الثقافة، وكان من نتاجها تلك الثمار اليانعة.
وكانت المرحلة الثالثة من مراحل الفتح مرحلة انتصار اللغة العربية على لغات الشعوب المغلوبة، وكانت هذه المرحلة آخر المراحل وأبطأها، وقد أبدت فيها الشعوب المغلوبة أعظم الدفاع وأشد المقاومة، وتبين فيها، كما هو المعتاد في غيرها، أن الشعوب تؤثر التخلي عن كيانها السياسي بل عن ديانتها القومية، إذا اقتضى الأمر، قبل أن تتخلى عن لغتها، ولم يتحقق الفوز الأخير للغة العربية حتى أواخر العصر العباسي.
ويجب أن نذكر هنا أنه قد تسنى للغة أن تنتصر كلغة علم قبل انتصارها كلغة تخاطب، إذ تسربت إليها من بيزنطة وفارس والهند مجاري الفكر وخلاصة الثقافات المختلفة المعروفة، فاتصلت ببغداد والكوفة والبصرة في القرن التاسع بشكل لم يسبق له مثيل إلا في حضارة الإسكندرية في العصور الأولى، وهكذا أصبحت اللغة العربية التي لم تستخدم من قبل للأغراض العلمية أداة للتعبير عن مظاهر الحضارة الإسلامية.
ثم يمضي في البحث عن التقدم العلمي والأدبي، فلا يدع شاردة ولا واردة يستدعي بحثه ذكرها، ولو بإيجاز غير مخل، حتى يتطرق أخيرًا إلى الأدب فيقول تحت عنوان: «الأدب بمعناه الدقيق».
«بدأ الأدب العربي بمعناه الضيق بالجاحظ شيخ أدباء البصرة، وبلغ قمته في كتابات بديع الزمان الهمذاني، والثعالبي النيسابوري، والحريري، وإلى بديع الزمان يرجع الفضل الأكبر في وضع المقامة، ثم يذكر أبا الفرج الأصفهاني وغيره، وألف ليلة وليلة، ويذكر بعض الشعراء كبشار وأبي تمام.»
وينتقل إلى التحدث عن التربية والتعليم وإنشاء المدارس ودور الكتب وحوانيت الورَّاقين، ولا يحرم الفنون الجميلة من نظرة قصيرة عميقة، وينتقل إلى الفرق الإسلامية فيحدثنا عن الخصومة بين العقل والدين، وعن الصوفيين وطرقهم وشعرهم، وعن الشيع جميعًا، وينتقل بعد هذا إلى البحث في تجزؤ الخلافة ونشوء الدويلات، ثم يختم كتابه هذا في البحث عن انحلال الدولة العباسية وتسلط هولاكو، وينتهي الكتاب بابتداء عهد الترك العثمانيين آخر حماة الدين الإسلامي.
سننتظر ظهور الجزء الثالث من هذا التاريخ الصادق النفيس، شاكرين للمؤلف نزاهته وإخلاصه التاريخيين، وللمترجمين الدكتورين: جرجي وجبور. ولا شك في أن همتهما الناهضة لا تقف طويلًا للاستراحة من عناء تجرُّه ترجمة كتاب دقيق كهذا.
أخذ الله بيد دار الكشاف العامرة لتخرج لنا ما بقي من سجل العرب الذهبي.