ثائرون!
نحن في غنى عن تعريف محمود تيمور. أمَا حمل الرجل لقب عميد القصة المصرية، كما حمل الأستاذ طه حسين لقب عميد الأدب العربي؟!
عجيب أمر مصر كم تحب الألقاب! ألبست شوقي خلعة إمارة الشعر، ثم مالت على حافظ إبراهيم فأسمته شاعر النيل، وعلى أثر ذلك لقب خليل مطران بشاعر القطرين، وعبد المحسن الكاظمي شاعر العرب. لست أردد قول الشاعر الأندلسي: ألقاب مملكة … فهؤلاء كانوا وما زالوا خير ما في الكنانة من سهام، ولكنني أعتب على الأستاذ طه حسين كيف يرضى بهذا اللقب ويعتد به وهو الذي ثار على إمارة شعر شوقي حتى راح يقنع حافظ إبراهيم ألا يبايعه، ولكن حافظ إبراهيم لبط بالأرض في مهرجان شوقي بالأوبرا وهتف:
إننا نشكر أبطال الثورة الذين أراحوا مصر والشرق من تلك الجلاجل التي كانت تعلق على كل اسم، فهذا باشا وذاك بيك وذاك …
إنه داء قديم في مصر المحروسة حتى حكى أحد الظرفاء أن أحد الخديويين أراد أن يعرف كم عنده من باشاوات وبكوات فأمر في يوم العيد أن يمروا أمامه: الباشاوات راكبين الخيل، والبكوات راكبين الحمير، وكان ما أمر، ومرت الباشاوات على خيولهم المطهمة ببدلاتهم المقصبة، وسيوفهم المذهبة، وتبعهم البكوات على حميرهم الفارهة، وانقطع حبل هذا الموكب الحماري وتلته قافلة مشاة، فسأل الخديوي: ومن هؤلاء؟!
فأجابه أحد المقربين: هؤلاء يا أفندينا بكوات، وقد صاروا أكثر من الحمير فلم يجدوا مراكيب … فمشوا.
أما وقد أثرنا قضية من قضايا الألقاب فما علينا لو أتبعنا الحبل بالدلو، وأثرنا قضية أخرى من طراز هذه، وهي قضية لقب «دكتور»، فقد عم هذا اللقب حتى خم، ووقع الالتباس بين دكتور ودكتور.
في دعوة ما سمع قروي المدعوين يخاطبون أكثر من واحد بيا دكتور، فأسرع إلى بيته وجاء بابنه المريض ليعرضه على أحد هؤلاء «الدكاترة»، وكم كانت خيبته مرة حين علم أن ليس بينهم واحد يقضي حاجته! فسأل: وكيف هم دكاترة؟
فقيل له: هذا دكتور في اللاهوت، وهذا دكتور في الأدب، وهذا دكتور في العلوم، وهذا دكتور فلسفة، وذاك دكتور هندسة، إلخ.
فصاح: أوف الله الله، كيف تغير الزمان؟! وهل العلوم والفسلفة والهندسة مريضة حتى يعالجها هؤلاء الدكاترة؟
إني أرى، وما هي محسدة ولا ضيق عين، إن كان ولا بد، أن تذكر هذه الألقاب الشريفة بعد أسماء أصحابها، ويعين نوعها؛ فيرتاح السذج وغير السذج، ولا يصغرون ويسقطون من عين أنفسهم متى وقعوا فيما وقع فيه ذاك القروي.
أظن أن أكثر أدباء أوروبا يحملون هذا اللقب، ومع ذلك لا يذكر لأحد، وإذا كان هذا اللقب العلمي الرسمي لا يذكر، فكيف بعمادة الأدب والقصة في مصر؟
نحن في معرض الكلام على قصة «ثائرون» لمحمود تيمور؛ ولذلك ثرت وبحت بما في نفسي وما في أنفس الناس. إن الصحف الحرة المتجددة تدرك أن قيمة الإنسان ما يحسنه، ولذلك نزعت هذه الألقاب واكتفت باسم الرجل.
نحن في هذه الأيام ثائرون على كل شيء، نريد أن نعمل جديدًا، ولذلك راح فريق منا يضع القوانين والدساتير الحديثة للأديب، كما كانوا في الزمن يكتبون للناشيء جملتين ثلاثًا ليصلح خطه عليها، وكانوا يسمون تلك الورقة. وهذا ما يريد بعضهم أن يعمله بالأدباء اليوم، مع أن الأديب لا يعين له موضوع يكتب فيه، فهو ليس طالبًا على مقعد المدرسة يكتب «فرضًا» ينتقيه له معلمه. الأديب يترك وشأنه، فالناس لم يتفقوا بعد على سيرورة القصة، والفن لا يقيد؛ فعلى الأديب أن يمشي على هواه وهو يعرف نفسه أين يجيد.
أراد محمود تيمور أن يعالج الموضوع الحاضر في مصر في قصة «ثائرون» فلم يوفق، وما أظن هذا الإخفاق إلا ناتجًا عن أنه يصف حياة لم يلابسها، فهو ليس ممن عايشوا هذه الطبقة حتى يصورها تصويرًا ناتئًا كالذي رآه البحتري في إيوان كسرى ونقرته يداه بلمس …
ألم يقل تيمور في مقدمة «ثائرون»: «ومتى استطاع الأديب أن يحيا في صميم القضية الاجتماعية أو المشكلة القومية تيسر عليه أن يعبر عنها تعبيرًا فنيًّا أصيلًا يدامج أعراق البشرية، ويمازج حقائق الحياة.»
سرق أعرابي غاشية من على سرج ثم دخل المسجد يصلي، فقرأ الإمام هذه الآية الكريمة: هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ.
فقال الأعرابي: يا فقيه، لا تدخل في الفضول.
فلما بلغ الإمام قوله تعالى: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ.
قال الأعرابي: خذوا غاشيتكم ولا يخشع وجهي. لا بارك الله لكم فيها. ثم رماها من يده وخرج.
ومن هذا الطراز أيضًا نادرة أخرى: سرق أعرابي صرة فيها دراهم، ثم دخل المسجد يصلي، وكان اسمه موسى، فقرأ الإمام: وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَىٰ.
فقال الأعرابي: والله إنك لساحر. ثم رمى الصرة وخرج.
ومثل هذا فعل الشيخ صفوان بطل قصة «يا سادة يا كرام»؛ دخل المسجد يصلي بعد دفنه ابنته حليمة التي ألبسته عار الأبد، فإذا بالإمام يحث المؤمنين والمؤمنات على الصون والعفاف، ويذكر ما أعد للمفرطين والمفرطات في الأعراض من أنكال وجحيم، وطعام ذي غصة وعذاب أليم …
فصاح الشيخ صفوان: ليس لك أيها الرجل أن تتحكم في مصير الناس، لا أريد أن يتكلم عن ابنتي أحد. إنها طاهرة الذيل طيبة القلب … لقد ماتت بين يدي تائبة …
هذه الروعة تجدها في هذه القصة وفي أكثر أقاصيص تيمور التي جارى فيها طبعه، ومشى على هينته، ولكنك لا تجد مثل هذه العفوية في قصة «ثائرون».
فالحوار الذي وُفق فيه تيمور في جميع قصصه وأقاصيصه نراه هنا متعملًا، فألفاظه أمسى بعضها بعيدًا عن المألوف؛ فهذا التعبير هل للسويفي صاحب المقهى أن يقوله لغلامه فلافل: هلم يا ولد إلى أحذية السادة فانفضها، أليست كلمة تعال أولى في هذا المقام؟ ثم ما الداعي إلى استعمال كلمة هلاهل وإرهاصات وغيرها؟
وإن هناك صبغة غير الصبغة التيمورية المعهودة، وما ذاك إلا لأنه حاول أن يعالج موضوعًا لم يتمثله ليستحيل إلى دم تيموري، ويخرجه فنًّا من طراز مما له من فن، أو لأنه صار من أعضاء المجمع العلمي.
يقول تيمور خاتمًا القصة بلسان بطل «ثائرون»: إني أعمل على إعداد جيل جديد. ففي نظري أن هذا الجيل الجديد هو الذي يجب عليه أن يقص علينا مثل هذه القصة التي تعمد تيمور أن يكتب فيها، فكل حية ولها موسى.
والذي قلته لتيمور أقوله للشباب أيضًا: لا تفتشوا عن ذاتكم عند سارتر وهمنغواي، ولا عند إليوت ولا غيره، فتشوا في زوايا أنفسكم عن أنفسكم. إذا كان الأطباء المخلصون ينصحون المرضى أن يتداووا بأعشاب بلادهم، فما عساي أنا أقول لكم؟ إنكم تضيعون في مهامه أولئك الفطاحل ولا تلقطون من أرضهم ولا عشبة … ليست الذات نحاسًا أو حديدًا يطلى ويموه بالذهب. إن للذات عرقًا أصيلًا، ومثل هذا العرق يجب أن يظهر ليُرى.
وبعد، فقد تكون قصة «ثائرون» معمولة على حقها، طبقًا للمقايس القصصية الفنية، ولكنها كيفما دارت بها الحال بعيدة عن نفسية تيمور وقصص تيمور وأقاصيصه.