أثر الأديب في الحياة
يا سامعين الصوت، سلام وتحية.
لقد حلم التاريخ بهذه العجيبة منذ خمسة وثلاثين قرنًا، بعدما رأى موسى ربه في العليقة، وتعارفا فصارا صديقين حميمين، ثم كانت تلك المحاضرة الخالدة على طور سينا.
وأنا أحدثكم اليوم من طور سينا العلم، طور سينا المسيو شمبار الذي لا يدخن، ولا يرتجف كراديو سيدنا موسى، فلا بروق ولا رعود. إنكم تسمعون صوت البوق كما سمعه بنو إسرائيل في ذلك الزمان من سفح الجبل. إن صوتي، وحده، يطير شعاعًا. وكم كنت أتمنى أن أرى وجوهكم الساحرة لأستمد منها نشاطًا ومرحًا، ومعاني لم تخطر على البال! لقد صح فيَّ وفيكم قول الشاعر:
يا ليتهم كبروا الآلة قليلًا ليبلغ صوتنا شطرنا الثاني خلف البحار فنحدثهم ويحدثونا. وهذا هين على أم فولتير ورنان وأناتول فرانس.
إن الأدباء مدينون جدًّا للمسيو شمبار، فبعدما كان الناس يدعونهم ليتفرجوا عليهم هنيهة، ويرجعوا بسلام، أصبحوا يخاطبون الناس من وراء الحجاب. ولا عجب، فالأدباء أمراء كلام كما يتمنى بعضهم أن يسمى. إن حصة الأدب من هذه الإذاعة قليلة جدًّا؛ عشرون دقيقة لا غير في الأسبوع، فأنصتوا لنا قليلًا، واحسبوها إحدى المصيبات: الحياة لا تكون كلها «عتابًا وميجانًا»، وكأني بهم قد جعلوا موعدنا ليلة الجمعة ليذكرونا بالصلب، فالأديب يحمل صليبه دائمًا.
موضوعي: أثر الأديب في الحياة، فافتحوا آذانكم الصغيرة جيدًا لتعلموا أن ما تحلمون به من الأمل الأخضر والرجاء الأبيض هو من عمل الأديب. أما إذا كنتم تهجسون بأسعار النقد الصعب، وتحبون سماع مشاحنات الجبابرة، وقرصان السياسة، فردوا الباب عليَّ واتركوني أحدث نفسي، وشنفوا آذانكم بأصوات جلاديكم التي تقضُّ عليكم مضاجعكم.
وبعد، فمن هو هذا الأديب الذي نحدثكم عنه؟ هو رجل ملهم خلق من الناس ليكون أبًا للناس، فهو آدمي في نفسه قبس من الحق لا يُطفأ، وقد أكون واقفًا، الآن، حيث كان يقف سنكنيتن البيروتي، الأديب العالمي الأول، الأديب الذي سبق موسى إلى سفر تكوينه، فخلق للعالم حواء سماها أيون، وآدم دعاه بروتوغون، ومن سلالتهما تحدرت الآلهة ودرجت أزواجًا على هذه الشط الزمردي، خلق آلهة برية وبحرية، أرضية وجوية، سماوية وجهنمية، انبثقوا من بطون كهوفنا وأوديتنا كغيلان تأبط شرًّا، وطاروا على روابينا وقممنا ذكورًا وإناثًا كرخِّ ألف ليلة وليلة. خلقتهم رعود لبنان كما تخلق البادية الكمأة في عام الرعد، وهكذا ملأت آلهة العالم القديم الأرض والفضاء فصاروا كأنهم موظفو دول هذه الأيام كثرةً لكل واحد عمله …
أما الإله الغازي فهو إيل رب الأرباب وسيد هؤلاء جميعًا، وأوسعهم شهرة ابنه الوحيد أدونيس الذي كاد له المريخ، صانع الصواعق كمعامل النار اليوم، فقتله، ولكنه مات ثم قام ليقضي ستة أشهر عند الزهرة في الأرض، والستة الأخرى عند عشيقة ثانية في السماء، وهكذا كان يفك آلهتنا مشاكلهم على حساب عبادهم.
واطمأن الناس إلى عباداتهم أجيالًا، حتى سئموا هؤلاء الآلهة الدساسين المشاغبين، وشكوا في هذا الطراز الإلهي المقتتل على النفوذ والمآرب الذاتية، فهبط الوحي السماوي رحمة بالإنسان، فعم الإيمان برب واحد لا شريك له، يزهق الباطل، ويعد الظالمين ليوم عصيب، وجعلت الدنيا معبرًا ومجازًا، وكل الطيبات عبر بحرها.
وإذا فتشنا عن العنصر الأدبي في جميع ما سعد به الإنسان من تعاليم، رأينا أن سحر البيان من دعائمها الكبرى، وأن الله، تقدس اسمه، لم يكلف برسالته، في كل دور، إلا أفصح خلقه، فالسيف والمدفع لا يؤديان رسالة السلام والاطمئنان، فما لها إلا الأديب يحملها على أجنحة خياله، ويطير بالنفوس معها، فهل أخطئ يا ترى إذا حددت الإنسان تحديدًا جديدًا وقلت: الإنسان فصيح فنان؟ فالإنسان لا يقاد طائعًا راضيًا إلا بسحر البيان الذي هو من صفات الأدباء.
لا نعني بالأدباء أولئك الضفادع الذين ينقون في مستنقعات الرجعية ويتقيئون على الورق ما قاله الأدباء الكبار منذ الآف السنين ومئاتها، بل نحن نعني أولئك الذين يدور العقل البشري في أفلاك وحيهم وإلهامهم، وإن خرج منها إلى فلك السفاحين الجبارين عاش شقيًّا مظلومًا.
فمخيلة الأديب في حلم دائم، والعلم يعبر تلك الأحلام ويحققها. مخيلة الأديب تحبل وتلد، ورجال العلم يلتقطون المولود، كآل فرعون، ليكون لنا عدوًّا … يحلم الأديب الملهم بتجميل الحياة وإسعاد الناس، والجبابرة يُصيِّرون تلك الأحلام يقظة قاسية.
إذا حاق الظلم بالإنسانية فالأديب أول من يتألم ويصرخ، الأديب يرفع صوته تحت بريق السيوف، ولا يسكته السلطان مهما طغى وتجبر؛ لأن الأديب الكامل لا يُشترى ولا يباع، لا يكتم كلمته ولو أعطي بها ملء الأرض ذهبًا، فهو لا يبتغي إلا العدالة، ويؤثر الموت على الخزي والعار.
يحمل الإنسانية على رأسه ويمشي، والحق يتكئ على صدره بالبيت كما قال كنفوشيوس، ومهما ثقلت عليه يد المضطهد فهيهات أن تزحزح عقيدته الراسخة؛ فهو يعيش بين معاصريه ويفكر بالمتقدمين، ويساير عصره، ويعمل بما يوحي إليه الغد. لا تلين إرادته ولا تنهزم أمام المخاطر والاضطهاد، فهو يسعى وراء المعرفة بلا ملل ولا راحة.
في الضعة والفقر لا يسقط الأديب كالحصاد، وفي الوجاهة والغنى لا يتنفس فرحًا وكبرياء.
كل هذا ينبئنا أن الأديب العظيم هبة علوية، وأن في الأدب السامي غذاء لا بد منه للبشر. تسأم النفوس دنيا العمل وضجيجها المزعج فنلجأ إلى دنيا الأديب، وعوالمه التي يخلقها، فتنفتح أمامها آفاق الأماني والأحلام، وإذا نظرنا إلى الانقلابات العالمية الخطيرة، رأينا للأديب فيها اليد الطولى. كلكم يعلم أثر فولتير وتولستوي ونيتشه في العالم الحاضر، فالأديب، شاعرًا كان أو ثائرًا، يقلب ببيانه الدنيا ومثلها العليا، وهو يقضي دائمًا بالأمر عن الشعب الغافل.
لست أضرب لكم مثلًا إلا شاعرين أكثركم تعرفونهما: فيكتور هيغو من شعراء الفرنجة، ودعبلًا الخزاعي من شعرائنا. لا تتعجبوا أن أحتج لرأيي هذا بأديب كدعبل اشتهر بوعورة طبعه، وشكاسة خلقه؛ فهو على نقصه من ناحية، أديب متمرد، أحس الشعب بضعف الإمامة وسكت على مضض، أما الأديب في دعبل فرفع صوته في ظل الموت صارخًا:
هكذا هاجم هذا الأديب الصغير خليفة بل خلفاء ينام الموت بين شفاهم. أما الشعب الخانع في كل عصر فيضحك من أدبائه ضحكة بهلولية، ويتذبذب إلى ظلامه بالنيل منهم والهزء. أما الأديب فلا يسكت، الأديب يعرض عن الاثنين، ولا يضن بروحه ليغلب العالم.
لم تجد الجامعة المصرية اسمًا أمجد من اسم الإله «توت»، الإله الأديب الكاتب لتحفر تمثاله في الميدالية الذهبية المضروبة تذكارًا للدكتوراه الفخرية التي رفعتها إلى الملك فاروق، فلا يَيْئسن إذن من يحس أن فيه قبسًا من روح الأديب الكبير، فساعته، لا محالة، آتية، ولو بعد خمسة آلاف سنة، كما استقر الإله توت الوثني على صدر الملك الصالح … الأدب والعلم لا دين لهما.
تفخر الأمم، كما نقرأ ونسمع، بقلة الأمية فيها، ولا يصبر على رؤية وجوه كثيرة من الناس وتعليمهم إلا الذين في نفوسهم شرارة ضئيلة من نار الأدب، وكثيرًا ما نرى أن هؤلاء الذين يكافحون جراد الأمية هم آخر من يجيء في بال الدولة، هذا إن جاءوا.
والذي يظهر لي بالاستقراء أن الشقاء حاجة الأديب التي لا بد منها، وإذا لم يجدها شقي بعقله. قرأت مسرحية إفرنسية طريفة أحب أن أختم كلمتي بتلخيصها لكم، مع إعلامكم أنني تصرفت بها قليلًا، فانتبهوا لي، وإلا فالخسارة عليكم.
كان في مدن فرنسا أديب تاعس الجد، تحييه زوجته المهذبة بما نصافح به العقرب متى شرفتنا بزيارة صيفية، ويزدريه من عرفوه في المجالس والمجامع. كان المسكين في حربين داخلية وخارجية.
وكانت الحرب العظمى فاختفى أثره، واشتهت بلدته أن تشتهر بأديب تفتخر به كغيرها من المدن، فرأت أن تشيد أثرًا فخمًا لأديبها هذا، فاضطلع رئيس البلدية بالأمر ورفع الأثر عاليًا، ثم كانت حفلة إزاحة الستار فتصدرها الوزير وزوجة الشاعر يجللها السواد من فوق عينيها إلى رجليها. وفي تلك الساعة الخطيرة من تاريخ المدينة وفد الشاعر بعد غيبته الطويلة، على الطائر المنحوس، ولشد ما دهش إذ رأى نفسه استحال تمثالًا من الرخام، ورفع على خازوق المجد.
أظهر نفسه للمحفل الكريم فأنكروه جميعًا حتى زوجته المتباكية، وخاف سعادة رئيس البلدية أن تفسد الطبخة ويحرم الحلوان؛ أي الوسام الذي في جيب الوزير، فسار بالشاعر ناحية وقال له جادًّا: أنت مت يا صاحبي، وقد صرفنا مبالغ طائلة من الفرنكات لتمجيد ذكرك؛ فليس من الكياسة أن تكذبنا، ولا من الحكمة أن تخسر هذا المجد.
وكان الأديب نبيهًا فتذكر زوجته ورفقها به، فصدق أنه مات، ولكنه عاش طويلًا يتفيأ ظل تمثاله، وينظم الشعر في تمجيد صاحب التمثال أديب البلد وشاعره الكبير.
هكذا صوروا الأديب عندهم، أما أنتم فصوروا أديبكم كما ترون، واتركوها في القلب تجرح ولا تخرج من الفم تفضح …
وقبل وبعد، فلا غنى للأمة عن الأديب، والأديب لا يخرج إلا من المدرسة؛ فبصفتي التعليمية أسأل السادة الذين يلعبون بنار السياسة ألا يزجوا الطلاب في غمارها، ألا يشغلوهم بوساوس العالم قبل أن يأخذوا بقسطهم من العلم، فيكونوا رجال غد حقًّا يصلحون لتأدية رسالتهم.
إن الأمة في حاجة إلى أدباء، والمدرسة أضيق من أن تسع التأديب والسياسة؛ فارحموا أمتكم يا رعاكم الله.