لبنان صديق الكتاب
… فهو مؤلف ومترجم وناشر منذ خمسة قرون، فذاك الكاهن الماروني المعروف بالصهيوني وضع وطبع في باريس نحو اللغة العربية سنة ١٦١٣، وفي رومة طبعوا كتبًا شتى، وفي سنة ١٦١٩ ترجم الصهيوني كتاب الشريف الإدريسي «نزهة المشتاق» وطبع في رومة، وسنة ١٦١٤ نشر الحاقلاني كتاب «مقاصد الحكم» لفلاسفة العرب، وسنة ١٥٣٠ طبع القرآن الكريم في البندقية.
هذا نموذج من عمل اللبناني في عصر الظلمات، يوم كانت عربيتهم طفلة، أما فيما بعد فصالوا وجالوا في ميدان الترجمة والإحياء والتأليف، فهذا أحمد فارس الشدياق، ولو كرهه المتعصبون، يجلي في ميداني التأليف والنشر والتعريب، فيضع ألفاظًا لمسميات حديثة، ويصبح إمام اللغة في عصره، فتنشر مطبعته التي كانت تصدر جريدته الجوائب: الجاسوس على القاموس، وديوان البحتري، وديوان الطغرائي، وديوان عباس بن الأحنف، ونقد الشعر لقدامة، ورسائل الخوارزمي والهمذاني، والموازنة بين أبي تمام والبحتري، ومقامات السيوطي، وأمثال العرب للضبي، ونثار الأزهار في الليل والنهار، ودرة الغواص للحريري مع شرحها للخفاجي، وديوان ابن الخشاب، والمقصورة الدريدية، ونزهة الطرف في علم الصرف للميداني، وأدب الدنيا والدين للماوردي، ورسائل شتى لابن سينا والثعالبي والمقريزي، وكلها بحرف مشرق جلي وورق صفيق.» «المشرق سنة ٣ ص١٨٠».
وقد بقي عشرات لم تذكرها المشرق مُقدمةً الأهم على المهم، أما في باريس فطبع الكونت رشيد الدحداح الأديب الشاعر معجم المطران جرمانوس فرحات، وطبع ديوان ابن الفارض مع شرحيه للشيخ حسن البوريني، والسيد عبد الغني النابلسي، ونشر مجموعة أشعار حكمية لأشهر شعراء العرب، وكتاب قمطرة طوامير، وكتاب فقه اللغة، وغيرها من الروائع العربية النفيسة المخطوطة.
إن الحديث يطول إذا ذكرت ما أحيا اللبناني في أقطار العالم، وأية بقعة من دنيا الله الواسعة ليس فيها لبناني؟ عندما أخذت اليابان بور أرثور ١٩٠٤ وجدوا هناك رجلًا لبنانيًّا، ولعله كان يفكر بإنشاء مطبعة وجريدة ونشر كتب وترجمتها، فمن يعلم …
فلولا النشر والترجمة لما استحق لبنان شكر الثقافة العربية، ولولا الجوائب والجنان والهلال والمقتطف والجامعة لظل أدبنا وعلمنا عتيقين، ولما كان هذا التطعيم الذي نوع الأشجار المثمرة في حديقتنا العربية، فمنذ ستماية سنة واللبناني يطبع ويترجم ويؤلف ويحيي، أعني يوم لم يكن أحد يفكر بذلك.
هذا رافائيل كحلا يطبع في باريس سنة ١٨٥٥ كتاب الفارياق للشدياق، لم يكن في الإمكان طبعه في الشرق فأخرجه كحلا في باريس، وهكذا أبقى لنا هذا الأثر الخالد، ولولا جرأته وهمته لكان ضاع كما ضاع صنوه الآخر كتاب «المرآة في عكس وجه التوراة».
هذه مائة وخمسون سنة مرت اليوم على ميلاد الشدياق، فهل فكرنا بإحياء ذكراه كما يفعل الغرب في تكريم ذكرى أدبائه؟ وهذه مائة وخمسون سنة تمر على ظهور الفارياق، فهل فتح أحد فمه ليمجد ذكر جبار القرن التاسع عشر؟
وبالجملة فهو كتاب لغة، ونحو وصرف، وفقه وأدب، وشرح للحديث الشريف، وتفسير للقرآن الكريم، فصدق عليه قول المثل: «إن من الحسن لشقوة.»
وإذا كان الشدياق قال في شكر عزيز مصر حين أمر بطبع لسان العرب أول مرة: «فالحمد لله مولي النعم، ومؤتي الهمم، على أن حفظه لنا مصونًا من تعاقب الأحوال، وتناوب الأحوال، كما نحمده على أنْ ألهم في هذه الأيام سيدنا الخديو المعظم العزيز ابن العزيز محمد توفيق … إلى أن يكون هذا الكتاب الفريد بالطبع منشورًا، ونفعه في جميع الأقطار مشهورًا.»
وبعد، فإذا كان هذا الفيض من الثناء على صاحب مصر، وهو عزيز أخصب دولة، فما ترانا نقول في شكر السيد صفي الدين؟ إن العمل جسيم، ولكن همم الرجال تدك الجبال، فإخراج كتاب في ثلاثين مجلدًا إخراجًا أنيقًا يصاحبه التمحيص والتدقيق لهو عمل تعجز عنه الجماعات فكيف بفرد؟!
إن ابن منظور قال حين صنف هذا المعجم الخطير: خذوا لغتكم من أعجمي، ونحن نقول له بلسان هذين السيدين الفاضلين صفي الدين وصادر: قم خذ كتابك في أشرق طبع من عربي سيد نبيل، ومن مسيحي ورث المكتبة أبًا عن جد، والفضل يعرفه ذووه يا عبد الله محمد بن المكرم.
سمعت من قال عند ظهور المجلد الأول من هذه الموسوعة الخطيرة: وما حاجتنا إلى هذا الكتاب الضخم؟!
لا أكلف نفسي الرد عليهم؛ لأن الجواب في مقدمة ابن منظور التي قال في آخرها: «فإنني لم أقصد سوى حفظ أصول هذه اللغة النبوية وضبط فضلها؛ إذ عليها مدار أحكام الكتاب العزيز والسنة النبوية، ولأن العالم بغوامضها يعلم ما توافق فيه النية اللسان، ويخالف فيه اللسان النية؛ ولذلك لما رأيته قد غلب في هذا الأوان، من اختلاف الألسنة والألوان، حتى لقد أصبح الملحن في الكلام يعد لحنًا مردودًا، وصار النطق بالعربية من المعايب معدودًا، وتنافس الناس في تصانيف الترجمانات في اللغة الأعجمية، وتصافحوا في غير اللغة العربية، فجمعت هذا الكتاب في زمن أهله بغير لغته يفخرون، وصنعته كما صنع نوح الفلك وقومه منه يسخرون.»
هذا القول كان يصح علينا منذ نصف قرن. أمَّا اليوم فقد كثر فينا عدد أحباب لسان العرب، والأمل كبير بنهضة جيلنا الطالع الذين يجمعون إذا شاءوا بين تليد العربية وطارفها، فإذا ضموا إلى لسان العرب معجم العلايلي كانت لهم مكتبة عامرة تُقوِّم اعوجاج اللسان فيكتبون بلسان عربي مبين.
أجل إن الكلمة المعجمية معدن لا يقوَّم بوزن، ولا يصبح نقدًا متداولًا إلا إذا اختصصناه بمعنى فتصير له قيمة فوق ما يسوى، وإذا أردنا أن نسهل لغتنا مع المحافظة على سلامتها فما علينا إلا أن نلجأ إلى العامي الفصيح. هذا مذهبي وعليه معولي فيما أكتب.
لقد أحسن المجمع العلمي المصري حين أقر كلمة بيرة وكونياك ووسكي، فالمهندس اللبيب حين يقصد تخطيط طريق يسأل عن طريق القدم والحافر، وهكذا يجب أن يفعل المجمعيون، يجب أن يستنيروا بمصنوعات العامة؛ فهم على صنع الألفاظ قادرون.
وأخيرًا هل أخطئ إذا سميت لبنان بلد المعاجم نشرًا وتصنيفًا؟ لا لعمري فما رأيت بعد معاجم القدماء معجمًا عربيًّا جديدًا إلا ومصدره هذا البلد الأمين، فمن معجم فرحات إلى سر ليالي الشدياق والجاسوس على القاموس، ومن محيط المحيط للبستاني إلى أقرب موارد الشرتوني إلى بستان عبد الله البستاني إلى المنجد، إلى معجم همام، وأخيرًا إلى «موسوعة» العلايلي التي ظلمها حين سماها المعجم.
وإن نسينا فلا ننسى معجم صديقنا المرحوم نجيب خلف، وإن لم ينشر بعد، فقد صرف حياته في تحبيره، ولعل الأيام تُقيِّض له من ينهض لطبعه.
أما الترجمة وليست كل ترجمة ترجمة، فجنديها الأمين اليوم الأستاذ منير البعلبكي أحد صاحبي دار العمل للملايين. انبرى الأستاذ البعلبكي لترجمة الروائع الخالدة والكتب الطريفة المفيدة، ولست أعددها لأنها أمست في أيدي القراء الذين يتلقفونها فور صدورها، فما يعنيني هنا أن أعدد آثارًا، ولكن يعنيني أن أقول: إن هذا الأديب الصامت منير البعلبكي لهو كالزهرة التي ترسل أريجها بلا ضوضاء، فإذا دخلت دار العلم للملايين رأيت رجلًا منصبًّا على كتاب يمعن النظر فيه ثم يدون ما علق بذهنه، حتى إذا أحس بدخولك قابلك بابتسامة مشرقة متواضعة، وراح يجر معك الحديث وعقله في كتابه الذي يعده لتستنير به العقول، فمنير البعلبكي خادم للثقافة لا يضيع دقيقة، فكأنه موظف أمين عند الثقافة الرفيعة وهي تؤدي له راتبًا شهريًّا.
والذي يعجبني في ترجمة البعلبكي هو أنه قد يفتش عن الكلمة الملائمة بالفتيلة والسراج، وإذا لم يجدها فورًا صبر عليها حتى تأتي، فمن فاتته مطالعة الآثار الأدبية بلغتها الأم يمكنه أن يعتمد على ترجمة منير؛ فهي أقرب ما يترجم اليوم إلى الأصل. قلت «أقرب» لأن لكل لغة حلاوتها وطعمها ولونها.
أما سلامة عبارته فقد تكون لا بل هي أسلم تعبير عن الفكرة الأجنبية التي ينقلها الأستاذ إلى العربية، فلا حشو ولا ثرثرة، بل أمانة كلية في التأدية. سوف يذكر الغد للأستاذ منير هذه الخدمة الجُلَّى للناشئة وللبنان الذي يصب في قنديله زيتًا جديدًا ليكون بلد إشعاع حقًّا، ومن أحق بالإنارة من أخينا منير؟