خارطة دنيا المتنبي
لقد عبر هذا الرجل عن خلوده في أبدية الفن حين قال:
فشخصية المتنبي دنيا فيها العامر والغامر، وفيها الربع الخالي والهلال الخصيب، وها أنا أرسم لك خريطة هذه الدنيا الواسعة. لا تهز برأسك ولا تمط شفتيك استهزاء. أما استهزأ الشاعر في كل إنسان:
فكيف لا يصح هذا فيمن قال:
أتذكر ما جاء في التوراة عن الذي صارع الملاك فانخلع جنبه؟ ولا أدري إذا كان قضى عمره يعرج. أما صراع المتنبي مع الدهر فكان ختام مأساته عند دير العاقول. هناك ختمت حياة قصيرة صاخبة لتبتدئ حياة أدبية أشد صخبًا، وهكذا ملأ صاحبنا الدنيا وشغل الناس.
إذن لست أحدث بدعة في عالم الأدب إذا رسمت بالكلام خارطة — مصور أو خريطة أو أطلس، سمِّها ما شئت — لهذه الشخصية التي لم يكن في تاريخ الأدب العربي شيء أغرب منها، ولا أزعم لك أنني اخترعت القنبلة الذرية إذا عملت هذا، فقد قال الطبسي في المتنبي:
ففي دنيا المتنبي جبال ووهاد، وجداول وأنهار، وقمم عليها الثلج الخالد، وأودية لا تقع على خباياها عين الشمس، ولا ينعش ثناياها هواء. تعزف فيها الغيلان طرًّا وشياطين الشعراء جميعًا، وفي دنيا المتنبي كهوف مهرتة الأشداق، قاتمة الأعماق، خاوية المخترق، وفيها سهول مد العين والنظر، وفوق هذه الدنيا آفاق بعيدة لا ترى حتى بالتلسكوب، وقد نجد فيها نجومًا جديدة لم نرها من قبل. أجواء لم يخترقها إلا من كان له صدر كالنورج، ويتنفس من كير، وفي جباله توءمات لا تلتقي أبدًا … فالإيمان بالجد؛ أي الحظ، توءم يناوحه توءم آخر هو حب السيادة، والإعجاب بالنفس توءم يناوحه توءم القوة المجردة من كل رحمة وحنان:
وفي سهوله خط جنون العظمة، يمتد من الكوفة في المكتب؛ أي من أول ذاته، وينتهي عند دير العاقول حين خلص ذلك الجسد المسكين من تلك النفس العاتية، الجبارة المتعبة. أما هو فسماها كبيرة حين قال:
ويمتد إزاء هذا الخط خط آخر متفرع منه، ولكنه كالغصن الذي ينبت على أرومة الشجرة الأم، فيمتص ما فيها من ماوية. وهذا الخط هو خط ازدراء الناس، فيرى حتى ساداتهم:
أما الناس فقال فيهم:
فلو أنهم تنازلوا عن ملكهم لأبي الطيب لكان غيَّر وجه التاريخ. اللهم كما يظن هو. الحرب في النظارات هينة. وقد خاطب كافورًا في هذا فقال له:
ولا تبارح هذه الفكرة الثابتة دماغ المتنبي، والفكرة الثابتة ضرب من الجنون، فتراه يرغي ويزبد كالبعير في شباط حانقًا على كل إنسان:
وسخطه على الناس نصبه خصمًا للدهر؛ لأنهم منه، وفيه، وله، كما يعتقد:
ثم صارت عداوته للدهر كأنها مشتقة من القيسية واليمنية، يريك الدهر شخصًا والأيام جنودًا لهذا الدهر الذي جعل أكبر همه مناصبة المتنبي العداء:
وما يود أبو الطيب غير السيادة والصيت المنفوخ:
ولا تنس خط العروبة. كانت يتيمة مقهورة في عهده، فكان المتنبي لها:
حاول أن يكون نبيًّا أو إمامًا، فكان حظه أرومات دلب أكلت رجليه:
ثم طمح إلى الولاية، كزميليه دعبل وأبي تمام، فإذا بكافور الذي استهبله أبو الطيب فجعله شمسًا منيرة سوداء، وكنَّاه أبا المسك وأبا البيضاء، ثم عد الملوك: سوابق خيل يهتدين بأدهم؛ أي كافور، ولكن كافورًا أدرك سخرية الشاعر فحفظها له.
إن جنون العظمة رافق أبا الطيب من المهد إلى اللحد، وقد كان هذا الميل الهائج فيه كالبركان مفسدًا ما حوله من زرع وضرع، فزعزع المتنبي في كل مكان نزله، وغروره بنفسه نفر الناس من محضره، فما قولك في رجل يلبس معظم ما خلق الله من ثياب ليظهر ضخمًا، وهكذا قشر الشاعر العصا للدهر وبنيه:
فشعر أبي الطيب منبثق من هذه الميول والأخلاق العاتية، ولكنها فاضلة، وهو حقًّا قال عن نفسه: وللغيد عندي ساعة ثم بيننا، وكما قال في شيراز: لا تخطر الفحشاء لي ببال. أما لماذا، فلا أدري. ولعل فقدان هذا الميل عنده كان سبب غضبه وحرده. هذا تخمين.
ولا ننس خطًّا آخر هو الأنفة، وهي خلق عربي، ولكن المتنبي أفرط في التبجح حين قال لنا في رثاء تلك الجدة الجليلة:
إذن فلنعد له هيكلًا من البلور النقي …
قد يكون اليتم أحد أسباب غضب الرجل علينا. نقصه عطف الأم صغيرًا، وتدليلها له بالتعظيم والتفخيم، فتولى هو ذلك عنها في حياته كلها حتى جن هذا الجنون وقال:
ألف حمد لله، جعلنا كالشعرة ولم يمش خلف الحجاج حين قال: أنتم العدة والحذاء.
ليس المتنبي هرًّا يعجبك شكله فتدلـلـه وتتلذذ بدغدغة صوفه الناعم، ولكنه نمر تهابه، وتسبِّح ربك حين تراه معجبًا بآياته، فالرجل أنوف في خده صعر، لا تستقيم أخادعه مهما ضرب الفرزدق، ومهما عاتب بشار. إن لومك على من أوجده، وقد أجابنا عن هذا بقوله:
فوجود المتنبي ونشأته في عصر أقل بدوي قرمطي فيه يدعي أن عباءته تلتف على الله لا على لحم ودم مثلنا نحن المساكين، قد أوقع المتنبي في هذا الجنون؛ ولهذا سترى الشاعر يهاجم الرسل والأنبياء ويصادف كلامه قبولًا؛ لأن من كانت تقال لهم متأثرون بهذا المعتقد الباطني.
رآهم يصدقون ما يقال بسهولة لا حد لها، ورأى أنه فوقهم عقلًا وفهمًا، فجمح هذا الجماح. هو شاعر، والشعر كان كل العلم، وكان آلة للصدارة، فأخذ يحدثنا في كل ما ينظم عن نفسه، ويطريها ويمجدها. لم يكن خروج المتنبي من نفسه بأكثر من خروج البزاقة من قمعها، فما إخاله حين يتحدث عن نفسه إلا محمومًا حرارته فوق الأربعين، أو كالمصروع في الهلة، ولكنه جنون كالعقل يستملح ويُحبُّ لهذا الإطار الفني، وكم صورة جملها إطارها!
في دماغ المتنبي ظلمات مدلهمة لها عندنا ألف يد تخبر أن المانوية تكذب، ولأجل هذه الأشعة المنفلتة، لأجل هذه الأبيات المجنونة وأشباهها أكاد أجزم أن في دماغ المتنبي ناحية خربة؛ فهو تارة ينزلنا بواد غير ذي زرع، وأخرى عند جنات تجري من تحتها الأنهار. أتخيل دماغه كقرص عسل فيه نخاريب مقطنة، ونخاريب عامرة فيها دواء للناس. وقد يكون هذا النقص — لا شك أن في المتنبي مركب نقص أو عاهة كما كانوا يقولون قبل علم العقل الباطن — سببًا للسمو الفني الذي جلس المتنبي على عرشه يمثل المهازل، وكم في المهازل من مواعظ وحكم!
ألا يلذ لك صراع المتنبي مع الدهر؟ فهوغريمه لا الناس. ألم تره كيف يمثل الدهر بشرًا سويًّا ليطالبه بدينه، ويركب كتفيه؟ فهو يجد فيه أبشع هوسه، ويستعدي عليه كافورًا.
أرأيت كيف تموج الحياة تحت قلم الفنان؟ ألا ترى المتنبي يتحدث إلى كافور عن الدهر كأنه يجد، وله حق ضائع عند الدهر، فتكاد تقول معه: آخ منك يا دهر، يا أكَّال الحقوق. يا كافور احجز متاعه وبعها في سوق الدلالين، وأدِّ حق المتنبي المظلوم.
وفي آخر الشوط يدرك المتنبي أنه أثقل ظهر الدهر بما حمله من أثقال فقال:
وهكذا تم الصلح في بلاد فارس، والصلح سيد الأحكام.
إن المتنبي لا يترجى غير ملكوت الدنيا، ولا يؤلِّه غير العقل، وبهذه الأداة حاول أن يسود فأخفق. والشكر لأبي البيضاء؛ فقد أسدى هذا المخصي إلى الشعر العربي جميلًا عجزت عنه الفحول البيض. كان المتنبي يؤدي رسالته التي خلق لها وهو يظن أنه خلق لغيرها. خال أن رسالته في الحكم ليطهر الأرض من الملوك الزعانف:
عاش المتنبي المصارع لا يسقط حتى يقوم، يعالج الحرمان بهذا الشعر المزرقِّ اللهب، فينفس عن ذاك الوعاء المسلح فلا يتصدع ولا ينفجر، وهكذا قضى وهو يفتش عن الحظ، غير عالم أن قلة حظه هي حظ أكبر.
إن ما قاله المتنبي من شعر خالد هو وليد الطموح والحرمان، عجز عن إدراك مملكة زائلة، فكانت له مملكة الآداب الخالدة.