من ذكريات جبيل
في أورشليم الأمس حيث عُبد الحب وتأله الإحساس بالجمال، في بيبلوس، ملعب الإله المغامر، الإله الفتى الوَرِش، الإله الذي كان يُبعث في الربيع حيًّا.
في جبيل الحالمة، معلمة الدنيا وأم الأساطير، في المدينة المحطمة حيث لكل حجر تاريخ ضخم، ولكل ذرة مجلد مجد، هناك أضعنا زهرة، وكم فتشنا عنها فلم نجدها.
في مدينة الثالوث القديم، هيكل الإله الذي صرعه الخنزير، كم مات لنا من أمل! وكم عاش فينا من رجاء! في ذلك الثغر الأدرد كم مرحنا! وعلى خيوط أسواره المقطعة كم طفرنا! وكم غصنا في سراديبه ودياميسه! وكم انغمسنا في غيابة كهوفه! كم مشينا على جماجم كانت دعائم عمان نخال أننا نحن بُناته ولا يدَ لغيرنا فيه!
كم لك يا أورشليم أدونيس، يا مدينة الزهرة الأزلية، من ذكريات ملتصقة بخاطري! إنك في متيهة فكري كالعَلم الرابض في وسط الصحراء أنَّي اتجهت أنجذب إليه بقوة أحسها ولا أدركها.
كلما دخلت جبيل تحف بي مواكب العذارى النائحات على تموز، وكلما احمرَّ ماء نهر إبراهيم تمثلت في ذهني مأساة الأمس، تتراءى لي أجواق الكهان في ترانيمها وتهاليلها، فأنطوي على كبدي وأقول في نفسي: اليوم كالأمس، ولا بد من هزء الآخر بالأول. اللهم لا تجعلنا مهزأة.
في تلك المدينة التي مشت الدنيا خلفها تصغر عندي أكبر القيم، وتسقط من عيني كل هذه العظائم فأرى كل شيء كلا شيء.
فلنمش. الحياة أسطورة، هكذا خلقها الإنسان لينعم بها.
في جبيل، تارة في صومعتي القائمة في قلب المدينة كالناطور على الرابية، وحينًا في مكتبي — بجريدة الحكمة — الواقف قبالتها، كان يأتيني ميشال برباري.
فتى ترقص الحياة بين جفنيه، ولا يخفضهما إلا ليضعهما على كتاب أو مجلة أو جريدة. شاب شرهٌ إلى الاستطلاع، نهم إلى المعرفة والاستقصاء، يريد أن يفهم كأنه جوعان، يود لو يلتهم كل شيء.
يجيء وفي يده مقال يتوق إلى نشره، ولا يذهب إلا ليعود بقصيدة تنم عن نفس فنية لم يصقلها المران، تحسب الغزل خطيئة لا تنظف أدرانها إلا الندامة الكاملة، وسرعان ما يتطور موقفه مني، فيعرض نفسه عليَّ ليعاونني — حبًّا وكرامة عين — فأستعين به على الترجمة، فيقوم بعمله متقنًا مدققًا كأنما يتقاضى أجرًا، ثم لا يُسوِّف ولا يبطئ كأنه مسئول عما يعمل.
هكذا كان التعارف بيننا، فاستمالني إليه على غطرستي وكبريائي، وحداثة سنه، فأصبح رفيقي وصديقي وإن فصلت بيننا عشر مراحل، فقضى أشهرًا معي كنا نصرفها بين العمل والراحة، وكانت أحلى تلك الأوقات سريعات الأصيل نقضيها على سيف البحر — بين عين الياسمين والفيدار — نقفز على الصخور ذات النخاريب، فاتكين بالسراطين وذوات الأصداف الآمنة. يمر أمامنا مشهد الغروب ولا يقول لنا شيئًا؛ لأننا في الضحى. ويا ويل الشجيِّ من الخليِّ.
كان يكبر ميشال في عيني كلما ازداد مني دنوًّا، وكان ينمو أدبه بنمو جسمه كقميص يسوع، وكلما اشتد بنية متن أدبًا، وكلما بعد عهده بالمدرسة اتسع أفقه، ولكنه لم يتعدَّ التخوم التي جعلوه فيها.
كنت أتوسم فيه الخير فصرت أعتدُّ به، وأفتح له باب النقاش، وخصوصًا في القضية الكبرى، فأراه في واد وأجدني في واد، فأنكمش وأؤثر أن يبقى حيث هو ولا يرافقني في مجاهلي القلقة المجاز.
كان ميشال يتذوق الأدب، وقد خلق له لو مارسه، ولكنه لم يخلق للشقاء، ففارقني بعد حين ليعمل كاتبًا في مكتب السكة الحديدية، حيث كان مثال الصدق والإخلاص والوفاء والاستقامة والنزاهة، وظل كذلك حتى توارى.
قضى حياته يخدم عمله والناس، لا ينفتح له باب حتى يولج فيه شابًّا عاطلًا يستحق أن يعمل. ما تقاعس عن خدمة، ولا عنت له أكرومة حتى تشبث بها قبل فوتها، فكأن مأتمه كما قال المتنبي:
ولكن وا لوعتاه! ما بكينا إلا عليه.
قد عجَّل صاحبي بالرحيل، وقوَّض خيامه وما آذن بالبين.
يعز عليَّ يا ميشال أن أبكي شبابك النضر، وأدبك الصامت. شغَلك العمل المجدي عن هذه الإلهية التي تُغري وتُسكر، ولكنك كنت في حقلك الخصيب تؤتي الثمر الطيب. ما الحياة إلا كدلاء النواعير إن فرغ أحدها امتلأ الآخر، وهكذا دواليك.
هنيئًا لك عملك وأجرك، وليذكرك بالرحمة عارفو فضلك، فمِثلُك لا يُنسى.
ولقد صح فينا وفيك قول المثل: كم جدي بالمسلخ، وكم كبش بالمرعى! هي سنة الطبيعة، وماذا نفعل بالمنايا؟ فهي كما رآها الشاعر تخبط خبط عشواء.
ما أشره هذه السباع الضواري التي نسميها قبورًا!
ما أكثر الإنسان بعيدًا عنها، وما أقله على حافتها!
هذا فصل لا بد من تمثيله، فلنُحسن ليُرخى علينا الستار بين التصفيق والاستعادة.
هيهات إنه فصل لا يستعاد.
فلنمض.