قرف
أكره «مقدمات الكتب» كما أكره أن أكون إشبينًا؛ شاهدًا لعروسين، أو عرابًا — كفيلًا في المعمودية — لطفل ما، ولكن شهدت وكفلت مرة واحدة وما ثنيت. وها أنا أراني الآن أقدم الأستاذ فؤاد كنعان منشئ هذه الأقاصيص. سأجعلها بيضة الديك؛ فلا يطمع بي أحد ولا يحاييني أحد، ومَن أراد أن أقدمه فليتقدم إلى مختبري، وهناك تكون التجربة إما باردة وإما سخنة. حظ ونصيب.
إن تقديم الكاتب للقراء احتقار لذوقهم الفني، فمن لا يُقدِّر الفن بنفسه فليس ينفعه الدليل إذا سمى له روائع الفن بأسمائها.
وبعد، فما الذي كلفني ضد طبعي حتى انتصبت دليلًا في متحف فؤاد كنعان؟
أقول: إنني أحب الشباب، وأترجى الخير الأدبي على يدهم، أما الذين شيخوا وشاخوا، فقد ولَّى ساقهم وسماقهم؛ ولهذا قدمت طائعًا مختارًا إلى القراء هذا الشاب القصصي. إنه يصور محيطه وحياة ذاق طعمها؛ ولهذا أحسن وأجاد. ربما اشمأزَّ غيري من قصة أو قصتين وصاح: يا غيرة الدين، هذا كافر، هذا مارق … أما أنا فأرى بعد قراءة أقصوصة «البومة» أن الأمر من الأمور التي تقع كل يوم، فالغرائز لا تكبَّل بهذه القيود الوهمية المهترئة. كلنا بشر ومن لحم ودم، والملبوس لا يعمل القسوس.
ثم أمرُّ بأقصوصة «شباب» فأرى أنه لا بد لكل فتى من «ستاج»؛ أي تمرين عند واحدة مثل أم روبير، مدام شنتال، وهل يكون التمرن إلا عند محام قارح؟ أما حكاية المرأة وكلبها، وثورتها على زوجها الذي قتله، وإيثارها الكلب الحامي على الزوج البارد؛ فهذا فوق علمي.
وقصة الأب برنردوس الواعظ البليغ واستحالته سمسار عرائس — أبو لحاف — فهذه مهنة بعض هؤلاء الأفاضل، ومن فاته اللحم فليشبع من المرق.
وفي قصة «انتقام» يجيد فؤاد سرد حكاية البنية «نجلا»، وانتقام عساف من ثيابها وحبقتها وقرنفلتها. لم يستطع عساف رفع بصره إلى مقام جناب البيك المستبد بأهالي ضيعته وأكل حقوقهم، ولم يجرؤ على مس نجلا خوفًا من سطوة سيد المزرعة، فاغتال ثيابها وهرب … ليت فؤاد كنعان وصف لنا ما يقع في هذه الكراخين — معامل الحرير — من احتكاكات واصطدامات وهزات عنيفة.
وحكاية «بعث» وبطلها المعلم لطوف، فعليك أنت قراءتها والحكم عليها، ولا سيما إذا كنت أعزب دهر، فتصلح مزاجك كما اصطلح مزاجه.
أما أقصوصة «بونا مرتينوس» الأقرع، ففيها وصف شائق لمركَّب النقص والكبت، ولانتقام ذوي العاهات ممن يتمتع بما حرموا منه، وقد قال العرب قبل فرويد: كل ذي عاهة جبار. وأكبر الظن أنني عرفت هذا الأب المولع بمخلوطة الفرنجي والعربي، فطالما سمعته بأذني الثنتين يناغي هرة أنطوش جبيل بالفرنسية فيقول له الآباتي المحترم واصاف الجاجي: «هذي من سبرين، ما تعلمت الفرنجية.» أما قرعة بونا مرتينوس، فلها معي ومع الأب واصاف قصة.
كنا نلعب الورق في إحدى ليالي كانون في أنطوش جبيل، وكان هذا القس قباله الأب واصاف، فصاح بالمحترم: أشر عن ورقك يا معلمي، فتغافل الأب واصاف وابتسم، فألح الأب مرتينوس إلحاحًا حاميًا، فضحك الأب واصاف نصف ضحكة وقال له: أستحي أن أقول لك: معي أصٌّ أقرع. فمتنا من الضحك، ورمى الأب مرتينوس ورقه وغضب، وحرمنا لذاذات سهرته تلك الليلة والتندر عليه.
أظن أن فؤاد كنعان من تلاميذ هذا المحترم؛ فشكرًا للقدر الذي ساق إليه هذا البطل ليخرج مثل هذه الأقصوصة.
وإذا قرأنا حكاية «غزالة» عرفنا أنها من حياة القرى اليومية، وخصوصًا اليوم. إنها قصة الحزبية الحاضرة، وطنية ودستورية، وأظنها من حوادث قرية رشميا مسقط رأس فؤاد؛ لأن حوادثها وقعت في قرية «رأس المي»، وهي تعريب كلمة رشميا السريانية.
وهناك قصص أخرى أتكل على ذوقك المرهف في مطالعتها.
أما رأيي في هذه الأقاصيص فألخصه بقولي: لو لم تعجبني لم أعْدُ طوري وأقدم لها، وحسبك هذا برهانًا على طيبتها. أما رأيي المبسط فتقرؤه، إن عشنا، بعد ظهورها وزيارتها مختبري. وداعًا الآن.