نشأة الموحدين وتاريخهم
صنف هذا الكتاب القاضي الكبير الشيخ أمين طليع، فجاء بمنزلة القفل من العقد. والمذهب الدرزي عقد أي عقد، طالما تاه الباحثون في دهاليزه فخرجوا منه صمًّا بكمًا. تكهنوا ما شاءوا أن يتكهنوا ولم يقف أحد منهم على الوضوح، وهيهات أن يلوح لك بصيص نور الوضوح إذا لم تكن قد ولدت درزيًّا، لا بل إن الدرزي الذي خرج من بطن أمه درزيًّا، حتى الناطق منهم، لا يقف على السر كله إذا لم تؤهله لذلك الفضائل الصارمة المرسومة في كتبهم.
قلت: إذا لم تكن قد ولدت درزيًّا؛ لأنه يستحيل على غير الدرزي المؤصل منذ أجيال أن يطلع على أسرار الدين العويصة؛ لأنها غير مكتوبة، ومنطوقها غير مفهومها، عبثًا تظن أنك فهمت؛ لأنك وقعت على أحد كتب المحكمة الستة؛ فالكلام عندهم ظاهر وباطن. وهذا ما يتوه به القارئ ولو كان بصيرًا.
يقول المثل: عاشر القوم أربعين يومًا، فإما أن تصير منهم أو ترحل عنهم. وأنا عاشرتهم قرابة أربعين عامًا وما زلت منهم حيث كنت، من حيث الدين؛ لأن الباب أقفل منذ ألف سنة.
خطر لضابط إنكليزي أن يعتنق المذهب الدرزي، فكتب إلى صديقه المرحوم الشيخ جميل تلحوق يطلب منه تمهيد السبيل لدخول المعقل الحصين، واعتناق المذهب التوحيدي الغامض، فكان الجواب: أُغلق الباب ومن دخل دخل، ولا يدخل علينا جديد. وعندما رويت هذا الخبر للبطرك إلياس تعجب، فقلت له: يا سيدنا، لو طلبت غبطتك الدخول لما أُجبت إلى طلبك. فأطرق هنيهة ثم تمتم وهو مطرق: الحق معهم؛ ما دخل أحدٌ ملة غير ملته إلا لغرض.
ثم انجرَّ حبل الحديث ورحت أروي له ما علمت عن فضائل أتقيائهم، فقال: إذن الدرزي ناسك؟ قلت: لا، ولكن بعض الدروز يعيشون بين الناس عيشة الحبساء.
فأجاب: وهذا هو الفضل الأكبر.
كان للدروز حقبة دعوا فيها لدينهم، ولما انقضت أمسوا في غنًى عن كل دعوة، فلا كرازة ولا تبشير ولا ترغيب؛ فهم قانعون بعددهم كما قال السمؤال:
لقد عشت بين هؤلاء القوم الغطاريف أكثر من ثلث قرن، فما رأيت إلا رعاية ونبلًا وكرم عنصر، وأشهد أنني في هذه المدة لم أسمع من أجاويدهم لفظة خشنة، ولا من الذين ليسوا من الأجاويد كلمة نابية، فهم أمراء الحديث وأرباب اللياقة. كانت مهمتي كمدير مدرسة تستدعي الاحتكاك، فما جاءتني قط امرأة تشكو أستاذًا، ولا رجل خرج عن مستوى الحديث المهذب؛ فالدرزي، كما يقول مثل بلاده لبنان: للسيف وللضيف ولغدرات الزمان.
وهنا يطيب لي أن أسجل في مقدمتي لهذا الكتاب كلمة كتبت منذ قرن ونيف، دوَّنها أحمد فارس الشدياق في كتابه الشهير المعروف «الفارياق». وهذه هي الكلمة كما وردت في طبعته الثانية: «فأما ما يقال: إن الدروز هم من ذوي الكسل والتواني، وإنهم لا ذمة لهم ولا ذمام، فالحق خلاف ذلك: أما وسمهم بالكسل فأحرى أن يكون ذلك مدحًا لهم؛ فإنه ناشئ عن القناعة والنزاهة والزهد، غير أن الصفات الحميدة التي يتنافس فيها الناس متى جاوزت الحد قليلًا التبست بنقيضها، فالإفراط في الحلم مثلًا يلتبس بالضعف، وفي الكرم يلتبس بالتبذير، وفي الشجاعة بالتهور والمغامرة، لا بل الإفراط في العبادة والتدين يلتبس بالهوس والخبال.
هذا، ولما كان الدروز مفرطين في القناعة؛ إذ لا ترى من بينهم أحدًا يقتحم القفار، ويخوض البحار قي طلب الإثراء ورغد العيش، وفي التأنق في الملبوس والمطعوم، ولا من يسفُّ للأمور الخسيسة ويَدنُق فيها، ولا من يباشر الصنائع الشاقة، ظُنَّ فيهم الكسل والتواني. ومعلوم أنه كلما كثر شره الإنسان ونهمه كثر نصبه وكده وهمه؛ فالتجار من الإفرنج، على ثروتهم وغناهم، أشقى من فلاحي بلادنا، فترى التاجر منهم يقوم على قدميه من الصباح إلى الساعة العاشرة ليلًا.
وأما أن الدروز لا عهد لهم ولا ذمة، فإنما هو محض افتراء وبهتان؛ إذ لم يعرف عنهم أنهم عاهدوا بشيء ثم نكثوا به من دون أن يحسوا من المعاهد إليه غدرًا، أو أن أميرًا منهم أو شيخًا رأى امرأة جاره النصراني تغتسل يومًا فأعجبته بضاضتها وبتيلتها وبوصها، فبعث إليها من تملق لها، أو غصبها — هنا يغمز الشدياق من قناة داود النبي — وأنت خبير بأن كثيرًا من النصارى عائشون في ظلهم، ومستأمنون في حماهم، وأنهم لو خيروا في أن يترك مستأمنهم هذا ليكونوا تحت أمن مشايخ النصارى لأبوا. وعندي أن من كان يرعى حرمة الجار في حرمته كان خليقًا بكل خير، ولم يكن ليخونه في غيرها.
فأما ما جرى من التحزب والتآلب بين طوائف الدروز وغيرهم، فإنما هي أمور سياسية لا تعلق لها بالدين، فبعض الناس يريد هذا الأمير حاكمًا عليهم وبعضهم يريد غيره.» «الفارياق، ص٣١-٣٢ طبعة مصر، لمصطفى محمد».
كتب أحمد فارس الشدياق، الماروني اللبناني نشأة، المسلم السني نحلة، ما كتب يوم كان الناس يحسبون الدروز أغوالًا يأكلون الناس، مع أنهم شركاؤهم في هذا الجبل. إن هذا الجبل ذو قرنين حقًّا، قرن شمالي، وقرن جنوبي. ومنذ قرن تناطح القرنان وكان استقلال لبنان الاستقلال الداخلي الدستوري في هذا الميليمتر الممتد على سيف البحر المتوسط.
والآن فلنعد بعد هذه التوطئة إلى المؤلف، فأمين طليع دستوره في الكلام أن خيرَه ما قل ودل، على طرافة وظرف، بمقدار ما يمتع، ولا يفضل عن المقدار.
أذكر حلاوة تعبيره واتساق كلامه، ولا أذكر أنه قال شعرًا، فهو منذ طلعته ميال إلى فكر. ومما أذكره من أخبار صباه هذه الحادثة: كان أن قضى مدير المدرسة المرحوم وديع غبريل، فأذنت الصفوف العليا بالذهاب إلى دفنه في «عبره»، وبارحنا عالية صفوفًا، وعند وصول الموكب إلى بيروت رأيت الصبي أمين طليع، وهو ابن اثني عشر بين الذاهبين، فاستدعيته وقلت له جادًّا: وممن استأذنت؟ فأجاب: من نفسي. وهل يحتاج الولد إلى إذن ليحضر دفن أبيه؟ فكان جوابه مسكتًا.
وبعدُ، فطالما اشتهى الناس معرفة المذهب الدرزي، وها هو ذلك الفتى النبيه الذي صار الأستاذ أمين طليع يكشف المخبأ، ويعطي الناس حقيقة هذا المذهب وجوهره.
إن ديانة الدروز فلسفية، وإذا شبهنا الروحاني بالجسداني قلنا: إن الله في مذهبهم رئيس الجمهورية في دولة رئيسها العقل؛ فهي فلسفية بكل معنى الكلمة، متأثرًا أكثرها بالفلسفة اليونانية، وخصوصًا الأفلاطونية، ولو كان مستلمو هذا المذهب من ذوي الثقافة العميقة لسميناهم فلاسفة؛ لأن التقمص الذي يضحك منه الإلهيون هو من صلب معتقد الفلاسفة.
عرف الدروز الأولون حب الإنسان للدنيا فقالوا له: أنت باقٍ فيها تحور وتدور، وستتقلب من حال إلى حال بحسب أعمالك. نفسك خالدة وتظل هي هي، تسعد وتشقى بحسب الجسد، لأن الجسم هو الثوب الذي يتبدل، ومن هنا جاءت حكاية «الناطق».
لا بد لحكاية الناطق من شرح حتى تفهم: يعتقد الدروز أن من مواليدهم من يتذكر ميلاده الماضي ويخبر عن حياة عاشها قبل الحياة التي هو فيها، ويحدد مواقع أشياء قل من يعرفها من الناس، ويدل على أشياء عرفها هو في حياته الأولى.
قلت مرة لأحد مشايخ الدروز العارفين: حرام أن يظل هذا السر مكتومًا؛ فمذهبكم حافل بالحسنات، وقد سبقتم الناس عندنا في ميادين شتى.
فأجابني: نحن لا تبشير عندنا، والباب مغلق، فلماذا نكلف أنفسنا الجدل ما دمنا لا نعمل لزيادة العدد، وقد قطعنا الطريق على المريدين؟
أجل، إنها ديانة لا تعتمد على الوحي كسائر الديانات؛ ديانة رياضية سبقت العلم الحاضر ألف سنة، وهي القائلة مع المعري: كان قبل آدم أوادم.
أخلاقهم يعربية، وديانتهم فلسفية يونانية كما قلنا، وإنا لنعجب من مولاهم الحاكم بأمره وصحابته كيف وُفِّقوا إلى مثل هذا التدبير.
إن حرية الفكر عندهم ألجأتهم إلى التستر خوفًا من الاضطهاد، وهذا الحاكم العبقري العظيم يقول لهم في السجل مطلقًا لهم الحرية في التفكير والتعبير: من يفطر فمن ماله يفطر، ولا إكراه ولا إجبار.
وكأن كلمة حي على الفلاح عامة في نظره، فشاء حصر الفلاح فقال: حي على خير العمل.
والآن حان لنا أن نلج الكتاب.
ظل الدروز لغزًا حتى كانت حرب إبراهيم باشا منذ قرن ونيف، والثورة الدرزية عام ١٩٢٥، فانتشرت كتبهم، ولكن لكتبهم مفاتيح؛ فلا يفهم من يعثر عليها إلا ظاهرها، أما الباطن فعلمه عندهم. لم يتضح لنا إلا ما كان معلومًا حين دوهمت خلوات البياضة في ثورة ١٩٢٥، أما الأسرار العويصة فهي سماعية لا يعرفها إلا الأجاويد الثقال، أصحاب اللغة المكورة وغيرهم من أصحاب الورع الأتقياء جدًّا؛ فالدرزية كالماسونية درجات، و«الجويد» الجديد لا يدرك الأسرار التي فوقه، فطلوع السلم عندهم درجة درجة، ومص القصب عقدة عقدة، وحين يخلو الأقطاب إلى بعضهم يخرج أولئك، ولا تنشر عليهم الأسرار المطلوبة.
وهؤلاء المطلعون لهم تقاليد صارمة جدًّا؛ فلا تدخين ولا شرب ولا كلام بذيء، إن تسبه فلا يجيبك، يفارقك بالتي هي أحسن، يضيع حقه ولا يطالب به؛ ولذلك قال مثلهم: عقَّال بلا جهَّال ضاعت حقوقهم. ومنهم من لا يشرب القهوة ولا الماء من بيت يظن أن ماله مشوب بالحرام.
هؤلاء هم الدروز الذين عاشرتهم أربعين عامًا إلا … نسيت مال الحكام؛ فإن كبار الجويدين لا يدخلونه كيسهم. وقد سبق أن فصلت ذلك في كتابي زوبعة الدهور.
يصوم الصائمون على حسابهم ويفطرون، ولا يعارض في أهل الروية فيما هم عليه صائمون ومفطرون، لكل مسلم في دينه اجتهاده، لا يستعلي مسلم على مسلم بما اعتقده، ولا يعترض معترض على صاحبه فيما اعتمده.
الخلاصة أن كتاب طليع هو طليعة ما كتب عن المذهب الدرزي الذي أدرك قبلنا قدمية العالم، وقد أقر العلماء اليوم رأي هؤلاء الموحدين القائل في حسابه: إن ٣٤٣ مليونًا من السنين قد سبقت ظهور آدم الأول، والفضاء الذي تحلق فيه الصواريخ والأقمار روسية وأميركية ليس له نهاية.
والدروز ينتظرون حكومة عتيدة هي حكومة الأخيار؛ إذ تصبح في ذلك الزمان الحكومة واحدة، والدين واحدًا.
كنا فيما مضى نعتمد على الكتب الإلهية، ونهزأ بالفلكيين حين كانوا كالمبرجين، فبعدما كنا نهزأ بهم قائلين لكل من يبدي رأيًا غير مألوف: قم، لا تتفلك؛ أي لا ترجم في الغيب، صارت الكلمة لهم.
وكتاب أمين الذي بدأ يدرس أعمق جذور هذا المذهب لم يقف بنا عند القديم، بل ذكر لنا قانون الأحوال الشخصية عندهم، وكيف اجتازت هذه الملة طريقها المثلى عبر التاريخ.
أرَّخ أمين دعوة التوحيد منذ نشأتها حتى وصل إلى سيدها الحاكم بأمر الله، هذا العظيم الذي اختلف الناس فيه ورأوا في أحكامه بعض الشذوذ؛ فنصيحتي للذين صدقوا ما قيل فيه أن يعيدوا النظر، ويذكروا أن في الدنيا كتابًا إفرنسيًّا عنوانه «جنون يسوع» نسب فيه مؤلفه إلى السيد المسيح ما نسب.
أما أنا فأحببت شخصية الحاكم بأمر الله العملاقة التي أوجدت جيلًا من الناس جبارًا على شكلها، وكم اغتبطت لأن تلميذي الذي صار من كبار القضاة في الجمهورية اللبنانية قد صرف جهده لدراسة مذهب لم نعرف عنه إلا لمحات منتشرة هنا وهناك. حدثنا أمين بأمانة العالم المؤرِّخ، فكان لنا من كتابه القيم أصول راجحة الكفة حققت الكلمة المأثورة: صاحب البيت أدرى بالذي فيه، وخصوصًا إذا كان بيتًا لا يدخله أحد من الخارجين؛ ليعلم ما في الزوايا من خبايا.
جزاك الله خيرًا يا أمين.