مع الخالدين
هو مأدبة ثقافية متنوعة الألوان والمطابخ. أعدها الأديب سمير شيخاني من السندويش المغذي، وقد أجاد طهيها وأحسن صنعًا إذ جعل صحونه صغيرة تلتهم بسرعة تلائم عجلة العصر. عدَّد الأشكال ونوَّعها فاختلف كتابه «مع الخالدين» عن كتبنا العربية التي هي من صنع واحد، مثل فهرست ابن النديم، وابن الأثير الذي له في كتابه «أسد الغابة» سبعة آلاف وخمسمائة ترجمة، ولكن مؤلف «مع الخالدين» ترجم لأشهر العباقرة العالميين. وسير العظام تخلق العظائم. إن لهذا الكتاب ميزات تجذبك إليه، وأهمها تنوع الطعام الذي يقوي شهوة النهم.
قالوا: إن الجاحظ خلط آيات القرآن الكريم والإنجيل المقدس والأحاديث الشريفة بأخبار القيان والماجنين والإباحيين. وهذا سمير يجمع في صعيد واحد الراهب الشهيد سافونارولا، والمصلح الديني لوثر، والقديسين لويولا، وتوما الإكويني، وأغسطينوس. تحدث صديقنا سمير بأسلوب من قبضوا على ناصية البيان، ولكنه لم يحشر في كتابه هذا تلك القوالب التي كانت رائعة يوم أحدثت. عبَّر بلغة حياتنا الحاضرة، وهذا من مميزات قلم سمير في كتبه: سالومي، و١٢ أوبرا عالمية، وأشهر رسائل الغرام، ونزل الزواج، والآن في «مع الخالدين».
كان موعدي مع سمير في «أحداث وأعلام»، وهو عنوان زاويته الإذاعية، فكنت أصغي إليه ولا أزال بعدما طالعت كتبه السابقة الذكر، وكتابه هذا الذي هو قمتها.
إن كتابة السير والتراجم تتأثر غالبًا بالنقل، ولكن سمير شيخاني حاول أن يعصم نفسه من التقليد؛ إذ عصر القناطير من الأعناب حتى أعطانا خمرة جيدة في كأس «مزوقة حبتها بأنواع التصاوير فارس.» كما قال أبو نواس في وصف كأسه العسجدية. ولعل الناظر إلى جلد الكتاب المرقط يؤيد ما أزعم.
ليس سمير شيخاني كاتبًا فقط، بل هو رائد فني. وقد أحسنوا الاختيار حين وضعوه في محله بالإذاعة فنهض بها. نشأ مترجمًا، وأظن أن دور الوضع والخلق قد حان، فعسى أن يخلق لنا مواعيد تقر بها عين الثقافة العربية، وإن كان هذا الكوكتيل الشهي قد خلق خلقًا جديدًا حتى بدا في أحسن تقويم.
عُني العرب كثيرًا بالسير وكتبوها تواريخ عباقرتهم، ثم جاء بعدهم المُلخصون فكثر هذا اللون في مكاتبنا، ولكنهم لم يشملوا نوابغ المسكونة جميعًا بنظرة عامة كما فعل سمير.
أراد المصنف أن يجمع عباقرة العالم في كتاب، فلجأ إلى هذا الإيجاز التام والتبويب الدقيق. قالت العرب: إيجاز مخلٌّ وتطويل مملٌّ، فأراد سمير أن يبرأ من هذه الوصمة، وجاءنا بكتاب لا غنى عنه للقارئ العربي الذي لا يحسن لغة أجنبية.
أنا أعشق مطالعة سير النوابغ لأنها تهبني همة عنيفة كلما قرأتها، وقد أقرؤها مرات لأن هؤلاء الأفاضل هم سرج الأزمنة، ومنارات الدهور والأجيال، والتعرف بهم حافز لمن يروم الفلاح.
ألم تجد، أيها الصديق العزيز، بين رجالات العرب أديبًا يستحق أن يكون في حلقة من ذكرت؟ إن الجاحظ في آثاره جميعًا يفوق أكثر من أجلستهم على عرش الخلود الأدبي، بل هو أبرزهم شخصية طريفة، ناهيك بأنه هو أول من حرك قضية الفكر قرنًا كاملًا في حياته، وأحد عشر قرنًا بعد مماته، وكما أن سافونارولا هو الذي شق الطريق للوثيروس وعبَّدها «وزفَّتها» بدمه الطاهر حين ضرب أول معول في برج تاريخ القرون الوسطى الأسود، كذلك شق الجاحظ طريق التفكير الحر لنوابغ العرب الذين ذكرتهم مع فلاسفة العالم.
إن الإيمان يفعل العجائب ويوحي بكل الأفعال النبيلة، وهو يعلو على الإحساس والعقل، ويرفعنا فوق هذا العالم، فلتستجب قداستك لنداء النعيم المقيم حتى يتحول حزنك إلى ابتهاج.
أظن أن كل سيرة عظيم تبنى على فكرة تدور حولها دوران الرحى حول القطب، وأنت لم تُعرِّف قارئك بفكرة بطلك الأساسية. إن صراع الشهيد الأعظم سافونارولا كان لأجل سلامة الآداب التي يوصي بها الدين، وهذا الصراع يستحق منك كلمة صريحة حول الموضوع؛ فالراهب رفض قبعة الكاردينالية بازدراء، وعدَّها رشوة حتى استغرب أن يعرضها البابا عليه، ثم آثر الموت شنقًا والإحراق بعد الموت على التفريط باستقلال ديره وامتيازاته، وظل يناضل دون ذلك حتى استشهد هو ورهبانه. لم يقبل هذا الشهيد بإخضاع دير سان ماركو للبابا، وهو لو يفعل لعاش بقية حياته على عرش شامخ كعرش البابا نفسه.
الخلاصة، كانت حرب سافونارولا معلنة على البابا إسكندر بورجيا باسمه؛ لأنه غير صالح، لأنه رجل طقسيات لا فضائل، كان يفخر بأولاده على مسامع البشر ولا يستحي. وهذا الفخر بالزنى الوقح كان يحاربه سافونارولا علنًا، ولا يبالي بالتهديد والوعيد الذي يأتيه من قبل سلطة البابا المزدوجة.
وأراك أخيرًا قد ختمت سيرة سوفونارولا بهذه العبارة التي طبعت بحرف أسود مميز: إلا أن بعض النسوة المؤمنات احتفظن بقلبه الذي تركته النيران سليمًا.
إن هذه أسطورة كتبت على غرار ما يكتب في سير القديسين … ولو كتبتها للقراء بصورة الزعم لكان أسلم. أما النقطة المهمة في نظري فهي أن هذا الراهب الشهيد العظيم لم يبع البابوية حرية فكره ورأيه ثم استقلال ديره بقبعة. دفع حياته ثمنًا لبقاء امتياز ديره، ولم يخضعه للبابا، وحسبه ما جنى من ثمار الخلود أنه خلق لوثر المصلح العظيم الذي هدم ما زعزعه سافونارولا.
إن للتاريخ عينًا لا تنام ولسانًا يتحدث إلى الأبد، وعنه نقلت ما دونت، فالويل ثم الويل لمن يبيعون حقوق أمتهم في الاستقلال بأقل من أكلة العدس التي باع بها عيسو بكوريته … بقبعة كاردينالية أو بعرش آخر وهمي … أو تاج تمثيلي من كرتون. إن ذكرهم يبقى ملعونًا، فعسى أن تطوب كنيسة اليوم الشهيد سافونارولا، وتصلح خطأ فاجعًا ارتكبه إسكندر بورجيا ومجمعه اللامقدس.
وأخيرًا أقول: لقد أجدت وأفدت يا سمير، عشت للكتاب نديمًا وسميرًا، وسلمت يدك.