محمد كرد علي
رجل مات والرجال قليل.
نجم أفل من آفاق العروبة، أعاض الله منه العلم والأمة نجومًا وكواكب.
جبار عملٍ وإيمان سقط في ساحة الجهاد، وما أروع سقوط الجبابرة!
جسر بناء انهد، فما أكبر المصاب فيه!
ركن علم تهدم؛ فنسأل الله سلامة البنيان.
ابن دمشق البر، وربيب ربوع الشام طواه الردى، وإن كان لم يزل حيًّا في «خطط» التاريخ.
أمير بيان فجعت به اليوم «أمراء البيان» والحضارة العربية الإسلامية، وسيد قلم ما انتزعه من يده إلا الموت.
•••
أيها المفكر الحر، ما أفقر شرقنا إلى مثلك!
أيها المؤمن الصادق، ما أحوجنا إلى سماحتك!
يا صدرًا أطبق عليه القبر فطوى معه علمًا جمًّا، ما أحوج الأمة إلى غضباتك المضرية إذا مسنا الضر!
لم تحدَّ الثمانون من نشاطك، وما أحوجتك إلى ترجمان، فكم أحييتَ، أيُّها الميت اليوم، من غيبتهم ظلمات الأمس!
ما أعظم مصيبتي فيك! انتظرت كتابك ففاجأني نعيك.
يا صديقي:
إنها لصداقة صغيرة السن، بنت ثلاث سنوات. وكذا تكون كواكب الأسحار.
أتقول: الموت سحر نهار آخر؟!
رأتنا الغوطة منذ أشهر نتمشى بين بساتينها كشابين، وعين كفاع أبصرتنا كفتيين، وكلتاهما شاهداي على ما أزعم.
متَّ يا صاحبي، ولم تشيخ همَّة، ولم تلن عودًا، ولم تخُرْ عزمًا.
متى ذكرتك عين كفاع ذكرت بك شيخًا عبقريًّا، يده دائمًا على محراثه، وعينه أبدًا على أرضه.
كنت مثلًا أعلى للقرية التي شرَّفتها أيامًا، فضرب أهلها فيك المثل: وتشبهوا.
ما رأيتك مستريحًا قط، لا في جسرين ولا في عين كفاع، وكيف يتقى الضغط العالي وتأمن الانفجار؟
كان موعدنا الغوطة مرتبعًا، وعين كفاع مصيفًا، فبعدت يا صديقي وتركتني أتأوَّه.
فأين تلك الأماني والآمال؟ لقد ذهبت، مع ما كان يرتجى بعدُ من إنتاجك الناضج.
تُرى أقرأت مكتوبي الأخير أم وصلك وأنت في غمرة لا تنجلي، وأنا لا أدري؟
شقَّ عليَّ كثيرًا أن تذهب ولا أودعك، ولا ألقي نظرة على تابوت العهد. لقد كنا غريبين حتى عن أولادنا وذوينا، وإلا لكنت نعيت إليَّ يا أعز الأحباب المخلصين.
يا عمري، يا عمرك!
تلك العبارة كانت محط كلامك، ولازمة حديثك، عند التحبب والإعجاب وها قد انقضى عمرك، ومَن يُدريني متى تأتي نوبتي؟
أسأل الله مهلة قليلة لأقضي بعض حقوق لك قبل الأجيال، يا أخلص رجال الجيل.
وإلى ذريتك وقرنائك في جهادك المجمعي، وإلى كل من بالأقطار العربية، بل إلى كل ناطق بالضاد في المشرقين، وإلى كل مؤمن بالكلمة وموقن بخلود الحرف أقدم التعزيات.
ولكن فليعزِّ بعضُنا بعضًا، ولأَبكِ، وحدي، صداقة قصيرة العمر.
•••
كتبت إليَّ تقول: الصحة جيدة، والضغط في نزول، والملتقى في «الغوطة». فما عدا مما بدا؟
وا جزع الغوطة على رَجُلها العظيم! ويا مصيبتها بمحيي تاريخها، وبمن سيكون لها تاريخًا!
ترى هل يعجُّ بعدك ذلك البيت بضيوف المعرفة؟
ترى هل ترى «جسرين» بعدُ وجوه المتمشرقين الحاجين إلى مزارك؟ هيهات، لقد انطوت الصفحة المشرقة، وذهبت الطلعة الوسيمة والوجه الصبيح.
•••
سر بحراسة الله أيها الشيخ الفتي. إن حسنات أعمالك الجسام قدامك فلا تجزع.
يحمل الواحد كتابه بيمينه، أما أنت فلك كُتُب يحسب لها يوم الحساب ألف حساب.
فبأمان الله أيها المصلح العظيم.
أيها المنصف، سوف لا ترى عند ربك إلا إنصافًا وإحسانًا.