قناديل إشبيلية
هي عنوان كتاب ينطوي على سبع أقاصيص كتبها الدكتور عبد السلام العجيلي. والعجيلي قصصي أصيل قلت فيه منذ سنوات: إنه يجري ولا يُجرى معه. أما خاصته فهي أنه ينتقي موضوعاته من صميم حياته، فتبرز شخوصه ذات ملامح ناتئة قلما تقع على مثلها.
الرجل تلميذ مدرستين: مدرسة البادية التي نشأ فيها، ومدرسة الحضارة التي زار فيها العواصم الأوروبية، ولهذا نجد في أقاصيصه صور هذه وهاتيك وكلها توحي إلى القارئ أن كاتبها خبير يعني ما يقول.
عفوًا نسينا المعارك القومية التي يصورها لنا فيتفرد بين قصاصينا بهذا اللون. اقرأ، إذا شئت، بنادق في لواء الجليل؛ ليعظم في عينيك ابن اثني عشر الذي اشتهى الدجاجة فأكلها بريشها. دفع أبوه ثمن البندقية ٢٥ جنيهًا، وكف ابنه لأنها انفجرت لأول طلقة.
ذكرتني هذه البندقية بالسلاح الفاروقي الذي كان يقتل صاحبه بدلًا من العدو، ولعل العجيلي يقصد هذا، ولكن القصصي يلمح ولا يوضح.
إن القومية لا تتوارى في أقاصيص العجيلي وعرق العروبة فيها نزاز؛ ولهذا نرى هذا المجاهد مصورًا لما وقعت عليه عيناه في المعارك، ففي كل ما كتبته يده صور قومية.
لا تغُرك قيافة الدكتور العجيلي الفرنجية، فهو يخفي تحتها بداوة قلما تجد لها نظيرًا في الصحاري، وكما لم تختف بداوة المتنبي في شعره بعدما عاش في القصور، كذلك لا تختفي بداوة العجيلي حتى في أشهر العواصم الأوروبية التي عاش فيها. كان ينقصنا قصاصو معارك، وإذا بالعجيلي يملأ هذا الفراغ كما يجب أن يُملأ، وها هو يحرك كوامن النفوس في أقصوصة «بريد معاد» ولو كانت النفس من جليد تشب فيها الحرارة، فكل هذه القصة الصغيرة نار متقدة. هي جيدة من أولها إلى آخرها، ولا سيما ختامها الرائع البارع.
أما أقصوصة «الرؤيا»، ولعله يتحدى بها الأستاذ تيمور في «يا سادة يا إكرام»، فقد عز فيها وبزَّ الأستاذ محمود تيمور السطحي التعبير والتفكير.
وقصة «سالي» وإن نشر فيها شئون عشرته وشجونها، فقد تضمنت حكاية زواجه التي تكاد تكون خيالية، وخصوصًا عندما قال دحام خادم البيت: إنه يعرف تلك الفتاة الأوروبية. فضحك الجميع وضحكت أنا معهم، وإن لم أكن بينهم حين راح دحام يؤكد بالأيمان المغلظة أنه عرف تلك الفتاة، ولماذا ضحكت؟
تذكرت حكاية تلاميذ من منطقتي كانوا يتذاكرون شارلمان، فسمعهم رجل يتحادثون فيه كما سمع دحام سيده العجيلي يتحدث عن سالي التي صارت زوجته فيما بعد. قال دحام: إنه عرفها، وقال ابن بلدنا: إنه عرف شارلمان، وهو بياع نباريش دكانه في أول سوق الطويلة.
أما قصة قناديل إشبيلية، وهي أم الكتاب؛ فبطلها البروفسور السيدو، وهو نموذج نادر غبي على الدكتور العجيلي إذ رآه في إشبيلية. مسكين مصاب بجنون من نوع خاص، يظن نفسه من سادة العرب، وأنه سيستعيد إشبيلية مملكة أجداده. وظل السيد يتحدث جادًّا ويصغي إليه العجيلي مُصدِّقًا، وظل السيدو يكرع الكئوس، ويوحي إلى العجيلي بكلماته وحركاته حتى كاد يصدق ما يقوله له. حقًّا إن هؤلاء المفلوكين فيهم غرائب عجائب، فأسأل الله، يا قارئي العزيز، أن يبختك بواحد منهم، وإذا لم تحظ فما عليك إلا أن تقرأ «قناديل إشبيلية»؛ فإنها تغني عن العيان، وقد تنقلك إلى إشبيلية كما نقلني العجيلي، والشرط أن تقرأها وأنت في فراشك ليلًا كما قرأتها أنا.
قالوا: إن من البيان لسحرًا، ويحق لنا أن نقول بعد أقاصيص العجيلي: إن من الفن والبيان لسحرًا، فشاعرية العجيلي كانت أجدى عليه في قصصه، أما القومية العربية فهي ملاك كل ما يكتب سواء أكان شعرًا أم نثرًا.
فيا عزيزي الدكتور، جوابًا على ما قلت في إهدائك الكتاب إليَّ: إنني ما عرفت الرأفة قط في نقدي؛ ولهذا لم أرأف بديوانك. أما هذه الأقاصيص فشكرًا لها؛ لأنها أجبرتني على الكلام بدون لدغ ولذع؛ فبورك فيك يا عبد السلام.
قلت: أحنيت رأسي. وصحيحها حنيت؛ لأنه يتعدى بلا همزة.
وفي قصة الشباك التي ألفتها من ثلاث أقاصيص، طريفة ذات تهكم بارع، قلت: طلع الصبح ولم يكن عارفًا حيًّا … وهي عارف.
وقلت: حوافه. وهي حافاته كما في معلقة الأعشى.
وقلت: تحدق فيَّ بعينيها. وهي تتعدى بإلى.
وأما المشتجرة فإنها أبشع من المستشزرات.
فعلتُ هذا لأريك أنني لا أُمالئ أحدًا، وحتى تثق بثنائي عليك، والنقد إذا خلا من النقد كان زائفًا، ناهيك أنك كاتب لا غبار على عبارته، ومن عاش مثلك في الغرب ولم يتخلَّ عن شعرة من عروبته يستحق منا أكثر من هذا التزمُّت اللغوي، ولكن المجال ضيق الآن.