الفصل العاشر
كان الثلج يقع بكثرة من وقت إلى آخر، حتى إن البرد أضحى قارسًا لا يُحتمل، فلم يعجب ألبير من طول غياب مرغريت، وهو لم يكن ينتظر رجوعها إلا بعد مُضِيِّ عدة أيام، وهو كان يعرف حق المعرفة ضعف طبعها، وأنها تتألم كثيرًا قبل أن تقرر أمر زيارتها له.
أما عيشته فكانت مملوءة كدرًا وشقاءً، وهو أليف التعب، سمير الضجر، نديم الأفكار المزعجة، وهواجسه لا تصوِّر له سوى سعادته وتلك العيشة الرغيدة في ماضي الأيام بين الأحباب والأصحاب، وحين يأخذ به كل ذلك مأخذه ينظر حوله نادبًا حظَّه، وتكاد تخنقه العَبَرات لسبب تلك الوحدة التي لم يألفها.
عندما جرى ما جرى بخصوص أمر بلانش وغادرت مرغريت بيته، ظن أنها ذهبت إلى أمها لتقضي بضعة أيام ثم تُسبل ذيل المعذرة عنه وتعود إليه، وكان يتذكر ما كانت تُردِّده على مسامعه مرارًا في أوقات اتحادهما وسعادتهما، وهو أنها لا تقدر أن تحتمل منه خيانة ولو صغيرة، وإذا ظهر منه شيء من هذا أو نوع من الخداع، فإنها تكرهه بقدر ما أحبَّته، ثم إن حُنُوَّها يتحول إلى قساوة عظيمة!
على أنها حينما فاجأتْه وهو يلاطف بلانش بأرقِّ الكلام، استحوذ عليه الحياء والخجل، وخشي عاقبة هذا الأمر، ولم يَأْلُ جهدًا في استعمال جميع الوسائط الممكِنة لاسترجاعها، ولم يصادف إلا الفشل، وعاملتْه معاملة قاسية حتى التزم أن يقطع كل أمل من جهة رجوعها، ولم يرَ من نفسه أن التذلل يليق بشخص نظيره، بل شمخ بأنفه تاركًا حبلها على غاربها.
وكانت بلانش خفيفة الروح، حسنة الوجه مستديرته، لطيفة المعشر، لكنها غير مستقيمة المبادئ، ولا حاجة إلى إيضاح ذلك.
مر أمام نظر القارئ أن مرغريت حزنت أشد الحزن بعد وفاة ابنتها إﻳﭭﻮن، فعادت لا تعتني بزوجها ألبير كما يقتضي، بل أطلقتِ العِنان لدموعها، واستسلمت إلى الحزن المضني، وهي تمضي أكثر أوقاتها بالبكاء والنحيب، وكانت بلانش تُكْثِرُ من زيارتها لها لتعزيها وتسلي ألبير. وأما مرغريت الحسنة السيرة، الطيبة السريرة، ذات الضمير النقي، فكانت تشكرها على حبها، وتسألها بإلحاح أن تطيل الإقامة عندها. وفي أحد الأيام دعتها إلى الذهاب معها إلى المَصِيف، فلَبَّتْ هذه الدعوة شاكرة، ولم تمضِ سوى أيام قليلة حتى صارت خليلة ألبير، ومرغريت لا تدري من ذلك شيئًا.
وبعد أن افترق الزوجان ظلت بلانش تتردد إلى ألبير حينًا من الدهر، وبعد ذلك اختلفا وتحوَّل الحب إلى بُغض، وعلى أثر هذا انفصلا كل الانفصال. ولم يكن إلا القليل حتى تذكَّر ألبير تلك السريرة الطيبة، والقلب النقي، والعفاف الذي لا عيبَ فيه، والحب المخلص، والأخلاق المرضية المتَّصفة بها مرغريت، ورام في الوقت عينه من صميم فؤاده أن تعود إليه في الحين، وأنه مستعد أن يُكَفِّرَ عن هفواته التي بدرت منه عن غير قصد تام، وكان يخال هذا الأمر سهلًا؛ لعلمه بحبها السابق، وهو يناجي نفسه بقوله: إني مستعدٌّ لتحمل أعظم الأهوال إذا اقتضت الحال لاسترجاعها إليَّ.
وبعد مرور عشرة أيام من اجتماعهما الأخير صفا الجو، وأشرقت الشمس، وابتسمت الطبيعة، وغردت الأطيار على غصون الأشجار، ومرغريت لم تَبْدُ طلعتها؛ فقلق من هذا الإبطاء، فتناول القلم وكتب لها عدة رسائل ثم مزَّقها وضرب بها عرض الحائط، وكان يُكثِر من الذهاب صباحًا إلى البستان الذي تتردد إليه المرضِع ومكسيم ابن مرغريت، باحثًا مفتِّشًا من كل ناحية وصوب، فلمْ يقف لهما على أثر.
وفي ذات يوم رأى والدة مرغريت من غير أن تراه، فتبعها عن بُعدٍ إلى أن دخلت البيت، وكان عالمًا بأنها تسكن في مسكن ابنتها في الطابق الأسفل، ثم دخل بعدها ببضع دقائق وصعد درجات السلم إلى أن رأى بابًا عليه اسم الدكتور روجر، وبعد أن قرعه فُتِحَ له فقال: أين الدكتور روجر! فأجابته الطباخة فاتحةُ الباب: هو غائب، وأظن غيابه يطول مدة شهر على الأقل؛ فإنه ذهب منذ ثمانية أيام مع زوجته. ولم يكد يسمع هذا حتى رجع القهقرى وهو يتلهب غيظًا وكدرًا من هذا السفر غير المنتظَر، وأخذ يتنفس الصعداء حتى كادت روحه تبلغ التراقي.