الفصل الحادي عشر
عاد ألبير إلى مسكنه ودخل حجرته في حالٍ يُرثى لها، ثم جلس وأسند رأسه بيده، وجعل يفكر في أحواله المحزنة، وتمثل في مُخَيِّلته مشهد اجتماعه الأخير بمرغريت، وإذ تصوَّر هزالها خصوصًا، بكى بكاءً مرًّا؛ لأنه لم يُظهِر لها أفكاره حينئذٍ، وندم على تركه إياها تذهب من غير أن يستوقفها ويصحبها معه إلى بيته الذي هو بيتها أيضًا.
أما أمر سفرها إلى الخارج، فلم يكن يخطُر على باله قط، وقد ظنها قصدتْ بذلك قطع المواصلات بينها وبينه.
وعلى أثر الانفصال الذي جرى منذ خمس سنوات، ترك المسكن الذي أقاما به بعد زواجه وعاد إلى منزل والدته، حيث اتخذ الحجرة التي كان يقطنها في مدة صباه، وبعد وفاة أمه بقي في البيت نفسه؛ لأنه كان جميلًا بعيدًا عن الحركة وضوضاء الناس، يكتنفه بستان صغير يحتوي على كثير من الأزهار المختلفة والرياحين المتنوعة، وتكسو أرضه الخضرة النضرة والأشجار التي تغرد على أفنانها الأطيار، وكانت حجرته مطلقة الهواء تشرف نوافذها على البستان، وعلى أرضه التي كانت تعلوها الخضرة في أكثر الفصول.
وكان قد شرع يهتم كل الاهتمام بتزيين هذه الغرفة وتحسينها من حين وعدته مرغريت بزيارتها، وقد وضع فيها شيئًا من الأثاث والأدوات التي كانت عنده يوم كانا معًا؛ لكي يحرك عواطفها ويحيي في قلبها ذكر أيام ما كان أحلاها، وعلق في الجدران صورة إﻳﭭﻮن ومرغريت ووالدته.
وإذ رجع من بيت الدكتور روجر وأجال نظره طويلًا في جدران الحجرة الأربعة، وتأمل في عظيم اهتمامه وشديد اعتنائه بالزخرفة التي تعِب بها عبثًا؛ زاد غمه وضاقت الدنيا في عينيه حتى كاد يفقد رشده. نعم، قد اتُّهِمَ بوصمة الخيانة وعلى أثرها انفصلت عنه زوجته متخِذة آخَر بدلًا منه، وفقد ابنته، ثم تُوفِّيَتْ أمه، ولا شقيق يحن عليه ولا خليل يميل إليه، ولا صاحب يسكِّن لوعته ويخمد حرقته، فتراه قد أصبح شريدًا طريدًا يندب سوء حظه، ويبكي على أيامه الماضية.
وكان بعد أن اجتمع بها في المرة الأخيرة انتعش فؤاده وحييت آماله، وشعر بأن لا طاقة له على العيشة بدونها، ولا اصطبار على الافتراق عنها، وعليه فلم يقنط من استرجاعها، وقد طالما قرع سن الندم على تركه إياها تقترن بروجر، وكاد في بعض الأحيان يتميز من الغيظ والغيرة عندما يحصر أفكاره وتزيد هواجسه، مفتكرًا كيف أن مرغريت تقيم مع روجر وتسافر معه حيث اتجه، وتسير مستندة على ذراعيه، وهو هو زوجها الحقيقي — لا روجر — الذي لا يقدر أن يكلمها كلمة واحدة ولا أن يكاتبها، حتى لا يحق له أن يراها، وهذا حال الزمان والدهر بالناس قلب.
نعم، إن ألبير لو وجد روجر في البيت عندما ذهب إليه لهجم عليه وقبض بيده على عنقه وخنقه؛ انتقامًا منه، شافيًا غليل غيرته.