الفصل الثالث عشر
في صباح سفرهما إلى مونتي كارلو لم يتكلم روجر سوى كلمات قليلة دون تبسُّم، أمَّا هي فكانت بعكس ذلك، غير أنها انقبضت فيما بعد عندما رأته لا يشاطرها انبساطها وابتهاجها؛ ولذلك فكرتْ في أثناء هذا السفر على رغمها في ألبير وهشاشته وبشاشته ومزاحه، وعند بلوغهما المكان المقصود قالت له: ها قد أفقتَ من نومكَ، فالحمد لله!
فأراد روجر أن يضحك ليَسُرَّهَا. وبعد تناول الطعام صَعَدا على سطح عالٍ يكشف على الجهات الأربع، حيث تنجلي للناظر بهجة الطبيعة وجمالها البديع، فهتفت: انظر ما أبدع هذه البقعة! وما أجمل هذه المناظر!
وكانت تنظر إلى جميع المارين من الجنسين وتُسَرُّ إذ تراهم سائرين أزواجًا؛ إذ تعتقد أنهم أحباب، وتقرأ في عينَيْ كل شخص ما يجول بخاطره من حب المال.
ثم دخلا محل اللعب الرحب بهذا المقدار، وجالا في جهاته الأربع ينظران إلى اللاعبين الكثيرين، وبعد ذلك جلست مرغريت ووضعت قطعة ٥ فرنكات على ٤ أعداد فربحت، وهكذا ظلت تلعب مدة ساعتين وروجر بالقرب منها لا يفارقها، فربحت ربحًا وافرًا دون خسارة فلس واحد، وقد سُرَّتْ سرورًا عظيمًا، ليس بالنظر إلى المال لأنها ذات غنًى وافر، وهي لا تحب الحصول عليه بهذه الطريقة، بل لأنها قويت على البخت وغلبته. وبعد ذلك بمدة غير يسيرة قال لها: ألم تكتفي يا مرغريت؟
– نعم، قد اكتفيت، وها قد ربحت أيضًا مقدارًا أكثر من الأول، فخُذْ هذه الدراهم عني. قالت هذا وهي تفتخر بحظها ونصيبها، ثم حانت منها التفاتة على حين غفلة، فرأت صديقتها بلانش القديمة واقفة بالقرب منها ناظرة إليها وهي تبتسم، فذكرت مرغريت ذلك الشقاء الذي سبَّبته هذه المرأة لها، وتأملت في ابتسامتها فإذا هي ابتسامة ازدراء، ثم مرت أمامها واضعة يدها على خصرها وهي تجر ذيول التيه والإعجاب، ولا تسلْ عن الروائح العطرية التي كانت تفوح منها؛ فإنها قد ملأت المكان على رحبه، وكان نظر مرغريت يتبعها مراقبًا حركاتها وسكناتها وما هي عليه من التبرج المفرط. وإذ بلغت جهة مقابلة لمرغريت استوقفها أحد أصدقائها، وبعد أن تبادلا الكلام وقتًا وجيزًا التفت هذا الشخص صديقها إلى جهة مرغريت، ففهمت هذه بأن محور الحديث يدور عليها، وبأسرع من لمح البرق مسكتْ بيد روجر قائلة: اخرج بي حالًا من هنا دون إبطاء!
– الحمد لله على حسن النهاية فَلْنخرجْ. أما مرغريت فإنها استشاطت غيظًا وغضبًا، وامتقع لونها، ولم تقدر أن تملك كدرها، وحينما وصلا إلى خارج المحل سألت روجر هل رأى تلك المرأة.
– وأي امرأة تعنين؟ إنِّي لم أَرَ امرأة، فدعينا من كل هذا وتعالَيْ نذهب إلى ذلك البستان الأخضر الذي نراه في تلك الجهة، ونجلس تحت ظل أشجاره.
– نعم، سِرْ بي حالًا إلى هناك، فإني أَطْوَع لك من بنانك، فلا أقدر أن أبقى هنا ولا دقيقة واحدة؛ خوفًا من أن أرى تلك الملعونة مرة ثانية.
– كوني مطمئنة لن تريها بعدُ. وعندما انتهيا إلى البستان الذي يقصدانه جلسا حيث لا تراهما عين، ثم ما هي إلا هنيهة يسيرة حتى هطل الدمع من عينها بكثرة، وجعلت تبكي متذكِّرة حياتها المُرَّةَ نادبة سوء حظها، وهي تتمثل عذاباتها وسائر آلامها أمام عينيها وعَبَراتها كسيل مدرار، وروجر لا يَنْبِس ببنت شفة، بل لزم السكوت؛ لعلمه أن الكلام لا يُجدِي نفعًا في مثل هذا الوقت. وبغضون ذلك كان يرى أن الحِيَلَ قد ضاقت به وعِيلَ صبره، ولم يدع واسطة إلا استعملها اكتسابًا لرضاها وجَعْلها سعيدة؛ وذلك لكي يعيشا عيشًا هنيئًا ذا صفاء وهناء.
وبعد أن تعبت من البكاء وخارت قواها وضعف عزمها، أسندت رأسها على ساعده وجعلت تمسح دموعها الكثيرة، وهو ساكت كالأول.