الفصل الخامس عشر
عاد الأمل إلى قلب ألبير رويدًا رويدًا بعد أن سحقه اليأس وقتله الملل، وقال إن مرغريت لا تقيم مدة طويلة خارج باريس؛ لأن ذلك لا يوافق مهنة روجر، فرجوعها قريب إذًا، وبعد ذلك يشاهدها في حجرته المُعَدَّة لاستقبالها، المُزيَّنة برسمها وذِكْرها. وكان يخرج غالبًا من بيته للنزهة، وحينما يصادف بعض أصدقائه القدماء يسلِّم على هذا، ويضغط على يد ذاك، ويبش في وجه الآخَر، ويسر خصوصًا بعشرة أولئك الذين عرفوا مرغريت عنده، ويتعجب عندما لا يذكرها واحد منهم.
وفي أحد الأيام مساءً ذهب إلى مكان عمومي حيث كان جمهور عظيم من الناس ليلهوَ عن أفكاره المحزنة، ولم يكن يبالي بأنغام الموسيقى وأصوات المشخِّصين؛ لأن قلبه كان يردِّد دائمًا اسم مرغريت، كما أنه لم يكن يعبأ بالسيدات الجالسات بقربه، وبغضون ذلك قال بنفسه: نعم، مِلْتُ إلى النساء بماضي الزمان، وأما الآن فلا يسطو على قلبي سوى مرغريت. وعندما انتهى الفصل نهض عن كرسيه قاصدًا الخروج فسمع صوتًا يناديه، فحوَّل رأسه إلى جهة الصوت، وإذا بسيدة هيفاء القَدِّ، مليحة الوجه، خفيفة الحركة، تتبعها فتاة لطيفة المنظر لابسة ثوبًا من الحرير.
– أأنتِ السيدة فارز؟
– نعم، أنا هي. وصافحته بوداد باسمة، ثم تقدَّمت ابنتها ومدت يدها لمصافحة ألبير.
– أكاد لا أعرف حضرة ابنتك العزيزة!
– نعم، فإنها تغيَّرت كثيرًا عن الماضي، أما أنا فقد تقدَّمت بالسن ومنذ زمن طويل لم أَرَكَ، مع أني أُسَرُّ بمشاهدتك سرورًا لا مزيد عليه؛ لأنها تذكرني بتلك الأيام السعيدة! ولا تبرح من فكري تلك الصداقة القديمة. وهل يسوءك ذِكْر الماضي؟
– بالعكس، فإن ذلك يسرني.
– أَخْبِرْني ماذا تصنع؟ وأين تسكن؟ وكيف تعيش؟ ولِمَ لا تزورنا؟
– أسكن باريس، وأعيش وحدي في بيتي، وفقدت والدتي منذ ٦ أشهر، وأرى المصائب والأحزان من كل جهة، ولا أريد أن أُثْقِل على أحد.
– كيف تعيش وحدكَ؟
– ولِمَ لا أعيش وحدي؟
– لِمَ لا تزورنا؟ إني أؤكِّد لكَ أن خبر انفصالك عن مرغريت قد غمَّنا جدًّا، وكنت أحبها من كل قلبي.
– ذلك الحب مضى الآن.
– أراها الآن تبتعد عني ولا أزورها إلا مرة واحدة في السنة، وأظن أنها تفضِّل قطع هذه الزيارة.
– وهل رأيتها من عهد قريب؟
– لا، إني لم أرها من عدة أشهر، لكني التقيت بوالدتها في الأسبوع الماضي، فأخبرتني بأن ابنتها سافرت إلى الجنوب.
– قل لي صريحًا، أَلَا يؤلمك ذِكْرُها؟
– لا وحقِّكِ.
– مسكينة مرغريت، فإنها أحبتك كثيرًا.
– وا لهفتاه على أيام مضت!
– نعم، لقد أحبتكَ جدًّا، وأنتَ جرحتها جرحًا بليغًا بسلوكك، وأظنها الآن سعيدة راضية بعيشتها. وفي أثناء كلامها هذا نظرت أمارات الألم على مُحَيَّاه فهتفت: آه، ربما تتألَّم من كلامي هذا! ثم مدت له يدها ثانية دلالة على ميلها إليه.
– هل تأذنين لي يا سيدتي بزيارتكِ؟
– من كل بُدٍّ، إننا نستقبل الزائرين يومي الأربعاء والسبت، وحينئذٍ تسمع عزف ابنتي هذه على البيانو لأنها ماهرة بفن الموسيقى. (عند ذلك تورَّدتْ وجنتا ابنتها أودت وخفضت عينيها) لو لمْ تمُت إﻳﭭﻮن لكانت الآن صبية؛ إذ إنها من عمر ابني جان. ثم تنهدت طويلًا وقالت: أرى أن لا مجال للكلام هنا، لكن زرنا بأول فرصة تسنح لكَ، وحينئذٍ نتحدث عن جملة أشياء، وإن كنتَ تأبى الزيارات الرسمية في الأيام المعيَّنة للاستقبال، فيمكنك الحضور نحو الساعة الثانية بعد الظهر أي يوم شئتَ، وهل بَلَغكَ خبر ترمُّلي؟
– لا أعرف شيئًا من هذا.
– نعم إن يد المنية قد اختطفت زوجي منذ سنتين.
– اقبلي فروض تعزيتي إذًا.
– أشكركَ غاية الشكر، وقد أسفت جدًّا وبكيتُ بكاءً مرًّا لحلول هذه المصيبة، وحزنتُ أيامًا طويلة، ورأيتُ أن ذلك لا يُجدي نفعًا، فالأَوْلى أن أسلي نفسي وابنتي هذه؛ لأن الحياة في هذه الدنيا قصيرة، ونحن اللاحقون في سبيل الآخرة وهم السابقون عاجلًا كان ذلك أو آجلًا، لا تنسَ أن تزورنا عن قريب. ثم ودَّعتْه وعادت إلى مكانها. جلس ألبير بعد أن أُفْعِم قلبه سرورًا لأنه وجد إحدى صديقات مرغريت، وكان من وقت لآخَر يلتفت إلى حيث هي جالسة، فرآها مرة تكلم امرأة على القرب منها، فعلِم أنه موضع حديثهما.
إن مدام فارز هذه عرفت مرغريت في المدرسة إذ كانتا تلميذتين، ودامت تلك الصداقة المكينة بينهما إلى بعد زواجهما، وبعد ذلك أضحت الألفة أشد من قبلُ، وكانت الأسرتان تتبادلان الزيارات بتواتُر وتذهبان إلى التنزُّه معًا، وكانت على اتفاق تام في الأدب والذوق والمعشر وما شاكل هذا، وكان ارتباطهما هذا ينمو مع مرور الأيام.
وإذ طرق مسامع السيدة فارز انفساخ ألبير عن مرغريت أسرعت إليها سعيًا بالصلح بينها وبين زوجها، غير أن مرغريت رفضت مقابلتها؛ لأنها كانت تعرَّفت ببلانش قبلًا، وفضلًا عن ذلك أنه تبادر إلى ذهنها أن ألبير نفسه ربما أحبها وهي لم تلاحظ هذا الأمر؛ نظرًا لما هي عليه من السذاجة والثقة الكبيرة وتعلُّقها الشديد به.
مما لا ريب فيه أن أوهام مرغريت هذه كانت تُغايِر الحقيقة على خط الاستقامة؛ إذ لم يكن بينهما سوى صداقة خالية من كل عيب وغاية وألفة في منتهى السذاجة، ولم تكن السيدة فارز من اللواتي يَقبلن على أنفسهن كذا أمور مشينة وأميال معيبة. نعم، إنها كانت تلبَس الملابس الثمينة الأنيقة وتتزين وتتبرج لتستلفت إليها الأنظار وتعجِب الناظرين، فهي كغيرها من جنس النساء، لكنها كانت تهزأ وتزدري بالعشق والعاشقين والحب وذويه، ولم تكن تُبالي إلا بولدَيْها اللذين كانا قيد اهتمامها وموضوع أفكارها وتدبير منزلها كما يقتضي؛ فإنها كانت على جانب عظيم من حسن إدارة بيتها.
وكان زوجها فارز مهندسًا ذا ثقة تامة بها وبحسن أمانتها وعفافها؛ ولهذا جعلها مُطْلَقة الحرية في شئون إدارة البيت، فهي تأمر وتنهى وتزور وتستقبل الزائرين والزائرات، وتعمل المآدب الفاخرة حسبما يروق لها، ومن طبعها الميل إلى الإكثار من الاجتماعات العالمية التي تتلوها الزيارات وصنع المآدب إلى غير ذلك مما لا غنى للسيدات عنه، وكانت تحب زوجها بإخلاص وأمانة زائدين، ولم يكن هذا الحب على سبيل العشق، وبعد وفاته تذكُره غالبًا وتدعوه بالصديق الأعظم، وقد صبرت على فراقه الأبدي هذا كما لو كان مسافرًا.
أما سرور مدام فارز بملاقاة ألبير فحَدِّثْ عنه ولا حرج، كيف لا وقد قضت بعشرته وعشرة زوجته الأيام الطويلة بدون أن يكدِّر صفوها شيء! وقد أخبرت ابنتها أودت بكل ما جرى له مع زوجته من غير أن تضرب صَفْحًا عن بعض التفاصيل؛ لأنها كانت تكلم ابنتها وتعاملها كأنها امرأة طاعنة في السن، معتبِرة أن الفتاة المدعوة إلى العيشة في الهيئة الاجتماعية تفتقر أن تعرف ما هو العالم، وأيُّ شيء يجري فيه من الخير والشر والحسنات والسيئات، على أن هذه الفتاة تحب أن تكون حسنة التدبير في أساليب المعيشة، واسعة العقل، قادرة على تدبير نفسها بنفسها؛ فهذا هو اعتقاد السيدة فارز، وعلى هذا النوع والقياس ربَّت وثقَّفَت ابنتها التي كانت تصغي بانتباه إلى أحاديث والدتها وتتأمل فيها طويلًا. وبعد أن رَوَت لها حكاية ألبير ومرغريت سألتها: قولي يا والدتي: تُرَى هل أخطأت مرغريت باقترانها ثانية أو أصابت؟
– لا شك يا ابنتي العزيزة أنها أخطأت كثيرًا، وهذا كان قول المرحوم والدكِ.