الفصل السادس عشر
بعد مضي يومين أتى ألبير وقرع باب بيت مدام فارز نحو الساعة الثانية بعد الظهر، فسار به الخادم إلى قاعة الاستقبال، فنظر إلى ما حوله فوجد كل شيء باقيًا كما كان أولًا بدون أقل تغيير، وقد تبادر إلى ذهنه فورًا زمان كان يأتي مع مرغريت؛ ولهذا أخذ قلبه يخفق بسرعة عظيمة حتى كاد يشعر أن فؤاده يتقطَّع، وترقرق الدمع في عينيه حين خطرت في باله سعادة الماضي وتعاسة الحاضر وظلام المستقبل. وبعد هنيهة حضرت مدام فارز وسلَّمت عليه قائلة: حقًّا إن زيارتك هذه سرَّتْنِي سرورًا لا يُوصَف، وإني أراكَ حزينًا كئيبًا. قُصَّ عليَّ همومك لعل في ذلك فرجًا لكَ.
– لقد صدقتِ يا سيدتي، فإني حزين النفس كئيبٌ تَعِسٌ.
– أنا شعرت بكل هذا لمَّا لمحتُكَ حيث اجتمعنا، ويلزم أن تعرف حق المعرفة بأنك أنتَ الملوم؛ إذ أقدمتَ على عمل مُنافٍ لسُنَّة الآداب، فكانت النتيجة أن أزعجتَ زوجتكَ، وأتعبتَ نفسكَ، وخرَّبتَ بيتكَ بيدكَ.
– خطِئتُ يا سيدتي وخطيئتي عظيمة، نعم كنتُ مجنونًا والجنون فنون، وهأنذا ترينني أكفِّر عن خطيئتي بعيشة مملوءة من اليأس والقنوط والشقاء، بل يا لها من عيشة مُرَّة لا تُطاق! وإني حتى هذه الساعة لا أزال أحب مرغريت وأميل بكُلِّيَّتي إليها أكثر من الأول. صرَّح بهذا وهو يشعر بتعزية عظيمة في قلبه، على أنه رأى بجانبها اللطف والجودة والإصغاء التام لحديثه، فتسلَّى نوعًا وقال: ما أطيب قلبك أيتها الصديقة!
– إني لا أرى دواء لدائكما.
– نعم، لا دواء لذلك.
قال هذا على غير ما في ضميره؛ إذ لم يقطع الأمل من استرجاعها.
– إن الدواء الناجع الوحيد هو النسيان وترويض النفس بالتنقل والأسفار من جهة إلى أخرى.
– كنتُ فيما مضى أميل إلى السفر أما الآن فلا.
– ألمْ تزل تحب بلانش؟
– اتَّبعت ذلك حينًا لكني لا أختارها زوجة لي، ولو كانت ملكة جالسة على سرير الملك.
– وهل تركتَها من زمان طويل؟
– منذ عشرة أشهر.
– تبًّا لهذه الدنيا، ما أَمَرَّ الحياة فيها! أما الآن فقد مضى ما مضى، ومتى اطَّلعت على مَرْهَم شافٍ لجرحكَ فلا تتأخرْ عن المجيء إلى هنا؛ فإني أساعدك بقدر إمكاني. إني أتذكر إﻳﭭﻮن في مكان اصطيافنا الأخير، وسأريك رسمها في حجرتي، وكنتُ أحبها وأميل إلى أمها كثيرًا.
– إني أعهد أن مِن طبعها الأمانة، فلِمَ تجافيكَ يا تُرَى؟!
– أظن أنها لا تريد أن ترى أحدًا من الذين عرفوها قبلًا، وسبب ذلك واضح كالشمس في رابعة نهارها. وربما الدكتور روجر لا يميل إلى معاشرة الناس، ومرغريت لا تزور وتستقبل إلا في النادر، وهل وجدتَها سعيدة؟
– أظن ذلك، لها ابن صغير جميل جدًّا، وهي تحبه محبة عظيمة.
– ألمْ تنظرها من عهد الانفساخ؟
– صادفتُ مرة والدتها، لكنها كانت وحدها.
– تجنَّبْ أن تراها ما استطعتَ؛ لأنك ربما وجدتَها كئيبة، وهذا مما لا يَسُرُّكَ.
– ولماذا تكون كئيبة، وأراني لا أخطر في بالها، ولا علاقة لها بي الآن؟!
– ما هذا إلا كلام. (إن هذه اللهجة أحيت الأمل في قلب ألبير، إلا أنه كتم سره ولم يُعرِب عما في ضميره.)
– لا نتقابل، كوني مطمئنة من هذه الجهة.
– هكذا آمل.
– إن لساني عاجز أيتها السيدة عن شرح عِظَم تأثُّري الذي شعرتُ به عند دخولي بيتكِ العامر، فقد ضنكتُ من كثرة الهموم وأشعر بأني هَرِمتُ، ولكن رأيتني ساعة زيارتك عاد إليَّ نشاط الشبيبة.
وفي أثناء ذلك دخلت أودت وهي تميل بقَدِّهَا الأهيف وصافحته وجلست.
– إني ذكَّرت ابنتي هذه بأنكَ كنت محبًّا لها بالماضي، وقد فطنت لعدة أشياء.
– أصحيح هذا أيتها الآنسة؟
– نعم أتذكر جملة أشياء، أذكر إﻳﭭﻮن الصغيرة وكيف كانت لابسة ثوبًا أزرق يعلوه تخريم أبيض، وذلك في عيد الميلاد. إن كلمات أودت هذه خرقت قلب ألبير الذي لم تندمل جراحه بعدُ، فرفع يده أمام عينه قاصدًا إخفاء دموعه المتفجرة، فلحظت ذلك أمُّ أودت فقالت: لقد آلمتِه يا عزيزتي!
– لا لم تؤلمني، بل سرَّتني كثيرًا لمَّا أبانت لي لون الثوب وشكل التخريم.
– تشجَّع أيها الصديق القديم، إننا نذكر إﻳﭭﻮن على مسامعك كي نسُرَّكَ.
– أراني سعيدًا بلقائكما أيتها السيدة الفاضلة!
– كان يجب أن تبحث عنَّا قبل اليوم، مع ذلك نسامحك على هذه الهفوة بل الذنب العظيم، بشرط أن تتناول العشاء عندنا مساء الأربعاء القادم.
– أرجوكِ أن تعفيني من هذا.
– لا بد من مجيئك؛ فإننا نتحدث ونمرح ونسر باجتماعنا؛ إذ لا غريب بيننا البتة.
عاد ألبير إلى منزله في ذلك المساء منشرِح الصدر، خفيف الروح، قرير العين، ناعم البال، وعندما فتح مكتبه وجد على مائدته علبة خشب، ولمَّا قرأ العنوان تحقق أنه كتابة مرغريت، فاعترته نوبة عصبية زعزعت أركان قواه، ثم رفع الغطاء بسرعة فوجد بطاقة بيضاء على ما هو أشبه بسرير من الورد، فقرأ ما فيها وإذا بها هاتان الكلمتان: «إلى إﻳﭭﻮن» عند ذلك أحس بأن موجة حب غمرت فؤاده، وفتح ذراعيه مناديًا زوجته المحبوبة بألطف الأسماء وأعذبها وأرقها، ثم جلس يُقبِّل تلك الورود العَطِرة.