الفصل الثاني
انتهت مرغريت إلى البيت وقرعت الجرس ففُتِح، ورأت زوجها أمامها وهو طَلْقُ المُحَيَّا، باسم الشفتين، ولما رآها أسرع إليها وصافحها وأمارات الحب ظاهرة على وجهه، ثم خاطبها بحُنُوٍّ قائلًا: لقد تأخرت يا عزيزتي، فماذا جرى لكِ اليوم؟
فأجابته غير مكترثة به: لم يجرِ لي من شيء. قالت هذا وإذا بصوت أمها يناديها: أسرعي يا ابنتي أسرعي؛ فإن صغيرك يبكي ولا يريد أن ينام بدونك. فقالت: هأنذا آتية. ثم هرولت إلى حجرتها وأشعلت فيها المصباح، ثم وقفت جامدة حائرة في وسط الحجرة لا تعي على شيء، مرتبطة اليدين، حزينة النفس، وكأني بها ترى ذاتها أنها غريبة في هذا البيت. وكان زوجها قد تبعها، فلمَّا رآها على هذه الحال دنا منها ومد يده إلى رأسها نازعًا الدبابيس من شعرها، ثم رفع القبعة عنه وقال: أسرعي إلى الصغير يا حبيبتي؛ فإنه يبكي منذ وقت غير وجيز.
– ويلاه! هل هو مريض؟
– لا، بل هو في غاية الصحة، لكنه قد اعتاد أن يرى أمه كل يوم قبل هذا الوقت؛ فخِفِّي إليه، وبعد أن تناغيه قليلًا ينام لا محالة. فأسرعت مرغريت إلى حجرة ابنها، وأطفأ زوجها المصباح، ثم دخل مكتبه، وجعل يقرأ في كتاب كان قد طواه عند دخول مرغريت، وبعد مُضِيِّ نصف ساعة خرجت تتبعها أمها على الأثر، فسألها زوجها: هل نام الصغير؟
فقالت والدتها: نعم نام.
– فإذًا يلزم أن نتناول طعام العشاء.
وإذ جلس الثلاثة على المائدة شعرت مرغريت ببعض التعزية عندما رأت زوجها الحقيقي تلقاءها، وتذكرتْ ألبير ذلك الخَدَّاع الذي عذَّبها ونغَّص عيشها، فقابلت بين الأول والثاني، فرأت فرقًا عظيمًا بين معاملة هذا وذاك؛ فإن زوجها الثاني كثيرًا ما أَحَبَّهَا في كل مرحلة من مراحل هذه الحياة، وخصوصًا عندما كان يراها محتاجة، فإنه مَدَّ لها يد المساعدة، واتَّخَذَها تحت ظل حمايته لكي يُنسيها آلامها السالفة، ويبدل غمومها وهمومها بالأفراح؛ ولذلك شعرت بميل إليه فائق العادة، ورأت أنها محتاجة إلى أن تخبره بواقعة الحال، أي بما جرى لها في يومها، غير أن وجود والدتها مدام موستل منعها عن الكلام؛ فأبقت ذلك إلى أول فرصة تسنح لها، إلا أنها لم تستطع كتمان عواطفها وإخفاء إحساساتها، ولم تمضِ سوى هُنَيْهَة حتى تفجرت ينابيع دموعها، وسالت أنهار دموعها على خديها، وشعرت بضيقِ صدر ضاغطٍ على مجرى النفَس كاد يخنقها، وأخذت تَئِنُّ أنين البائس الحزين. فحينئذٍ نهض روجر عن كرسيه مرتعبًا مضطربًا، وأوقفها في مكانها وأسندها على ذراعه، ثم ذهب بها إلى حجرته حيث أجلسها على مقعد هناك، وفي غضون ذلك هرولت مدام موستل والطعام في فيها وقالت: ما الخبر؟ وأيُّ خطب جرى؟
– لا تخافي يا حماتي، دعيني أعالجها وحدي، أمَّا أنتِ فاذهبي إلى مزاولة شئونك.
– نعم، في مثل هذا اليوم ولدَتْ ابنتها إﻳﭭﻮن، فيظهر أنها تذكرتْ ذلك فما قدرت — والحالة هذه — على امتلاك عواطفها.
– لم يغرب عني ذلك، وقد أدركتُ كل هذا من ملامح وجهها، وظهر لي جليًّا أنها تفتكر بابنتها إﻳﭭﻮن. قال هذا وشرع يداوي امرأته هذه بعناية كلية واعتناء لا زيادة بعده لمستزيد، وهو يُنشقها المنعشات على اختلاف أنواعها وضروبها، وكان طبيبًا ماهرًا في صناعة الطب، ولم يَكُنْ إلا بضع دقائق حتى عادت إليها قواها وفتحت عينيها كأنها قد انتبهت من سبات عميق، وقالت: يا روجر، اذهب وأتِمَّ طعامكَ، وأنتِ يا والدتي اصحبيه إلى المائدة واستكملي غداءك، فما من حاجة لي بكما بعدُ.
فأجابت والدتها: لا أستطيع أن آكل لقمة واحدة؛ لأن معدتي في اضطراب شديد!
– تعالَيْ يا حماتي معي إلى المائدة، وأنت يا عزيزتي مرغريت إذا شعرت بتعب جديد فما عليك إلا أن تقرعي جرس الاستدعاء لأحضر بسرعة.
– لا شك في ذلك.
فهدأ روع مرغريت وجمعتْ قواها لأن المكان خلا لها، ثم بدأتْ ثانية تُعيد في فكرها ذِكْرَ ماضيها وما حدث لها في أدوار حياتها، وما هي إلا لحظة حتى أغمضت جفنيها، فتمثَّل حينئذٍ شخص ألبير الحلو أمام ناظريها، فأمعنت النظر طويلًا في صباحة ذلك الوجه المنير، والجبهة العالية البيضاء، كما أنها تأمَّلَتْ في ذلك القوام المعتدل الذي لا يضاهيه قوام، فضلًا عن رنات صوته اللذيذة، إلى غير ذلك من الصفات التي كانت تأخذ بمجامع القلوب. فعند ذلك، عَضَّتْ على أناملها ندمًا وكادت تغيب عن الرُّشْدِ، ثم عادت إلى واجباتها وفكَّرتْ في شخص الدكتور روجر الذي كان قوي البنية، عريض المَنْكِبَيْن، أسمر اللون، ذا لحية سوداء طويلة، وعينين برَّاقتين، تلوح على مُحَيَّاه طهارة القلب وسلامة النية وحرية الضمير.
قد عُلِمَ مما تقدَّم أن مرغريت تحب ابن عمها روجر، لكن شتَّانَ ما بين الحُبَّيْن الأول والثاني، وقد قال الشاعر:
نعم، إن حبها وعشقها وميلها وهواها وقلبها، كل ذلك كانت قدمته إلى ألبير الذي عرَفَتْه أولًا، ومعلوم أن الحب كلما عظم ازدادت الغيرة. على أن مرغريت عندما رأت ما كان من أمر زوجها ألبير مع صديقتها بلانش، كَبُرَ عليها وصعب احتماله، فأسرعت إلى أمها وقصَّتْ عليها الخبر، مُظْهِرَةً لها عظيم حزنها وشديد كدرها، غير أن هذه لم تكن ذات تَعَقُّل ورزانة وحكمة لتسكين جأشها وتهدئة روعها، فهاجت وماجت لدى سماعها ذلك، وانتقضت انتفاضًا وقالت: تبًّا له من رجل دنيء، ووغد لئيم، عادم الشرف، فاقد الإحساسات الإنسانية، أسألكَ رباه أن تخلِّص ابنتي من هذا الوحش الضاري!
ولم تكتفِ العجوز بهذا الكلام المهيج العواطف دفعة، بل كانت تتلفَّظ به مرارًا وتراجعه تكرارًا أمام ابنتها، مُظْهِرَةً لها فظاعة عمل زوجها وخيانته التي لا يُطاق احتمالها، ولم تَزَلْ على هذا ومثله من اغتياب ألبير وتخطِئته بأسمج الألفاظ والتعابير، حتى بدأت مرغريت تشعر بأن مراجل العداوة والحقد تغلي في أحشائها، وصارت تكره ألبير كرهًا عظيمًا، وشعرت بأنها لا تقدر أن تُساكنه ولا أن تعيش معه؛ فعزمت على طلب الطلاق. على أنها عندما أعلنت ذلك لوالدتها قالت لها: هذا الصواب بعينه، كيف لا، وإن الزوج هو سيئ المبادئ فاسد السيرة، فلا تطيب السُّكنى معه بوجه من الوجوه؟!
أما ألبير، فإنه سمع في إحدى المرات الحديث الذي كان يدور بين الأم وابنتها بهذا الخصوص، وعندما طرقت مسمعيه كلمة «طلاق» أسرع طالبًا مواجهة مرغريت، فأبت مقابلته كل الإباء، ثم كتب لها بعد ذلك عدة رسائل، غير أنها أعادتها إليه على الأثر مختومة كما كانت. فاستعان ببعض الأشخاص من ذوي الرزانة والرصانة والمعرفة التامة بحقائق الأمور ليحادثوها في الأمر، فرفضت مقابلتهم، وأبَتْ أن تسمع كلام وسيط أو حديث رسول في هذا الشأن. وبعد أن استعمل كل الوسائط الفعَّالة لإصلاح ذات البَيْنِ بينه وبينها ولم تُفِدْ شيئًا بل ذهبت أدراج الرياح، لم يشأ أن يحتقرها ولا أن يعاملها معاملة سوء، فعزم أخيرًا على أن لا يعود يفاتحها بهذا الأمر، بل يدعها وشأنها تاركًا حبلها على غاربها.
هذا، وبعد أن تم أمر الطلاق بين الزوجين، شعرت مرغريت بوخز الضمير المتعِب وضيق في صدرها، وما ذلك إلا لأنها كانت تحب ألبير حبًّا لا زيادة بعده، وكانت تبكي بكاءً مرًّا وتندب حظها حينما كان يخطر في بالها أنها قد فارقته فراقًا لا اتِّحاد بعده، ولم يجرِ ذلك إلا بمجرد إرادتها وقبولها التام. على أن والدتها كانت تبذل أقصى الجهد من جهة ثانية بإقناعها بأن تتزوج ابن عمها روجر، الذي كان يحبُّها حبًّا شديدًا، غير أن مرغريت لم تعبأ بهذا الكلام في أول الأمر، وحسبته أمرًا ساقطًا لا يلزم أن يُذكَر بشفة، ولكن نظرًا لما رأته من حُنُوِّ ابن عمِّها روجر، وحسن أمانته وشفقته، أخذت تفكِّر في هذا الأمر من وقت إلى آخرَ، إلى أن أضحى شغلًا لها صباح مساء، وكثيرًا ما كان هذا الفكر يقلقها في غدواتها وروحاتها، وإذ لم تَرَ مَناصًا من هذه الأفكار المتعِبة والهواجس المضنية، اضطرَّتْ أن ترضى الاقتران بابن عمها روجر، على أنها عزمت عزمًا أكيدًا ثابتًا على أن تمحو من فكرها اسم ألبير، واسم كل شخص يذكِّرها به.
أما روجر فقصد اتخاذ كل الوسائط الفعَّالة لكي يجعلها سعيدة ذات عيش رغد وقلب مطمئن؛ لتنسى ذكر تلك الآلام الماضية. وكان يقرأ غمومها وسائر أحزانها بل وأعماق أفكارها في عينيها وملامح مُحَيَّاها، وكان يدل على كل هذا إشاراتها وحركاتها. وقد فهم روجر في ذلك المساء أن مرغريت تتعذب عذابًا مبرِّحًا بتذكُّر أمر محزن.
كان يجري ذلك في مُخَيِّلة مرغريت، وأخيرًا طرق أذنيها صوت أمِّها تخاطب روجر في قاعة الطعام.
– إني في قلق شديد؛ فدعني أذهب إليها.
– لا ضرورة لذهابكِ، بل الزمي مكانك.
– إنها وحدها، فلا شك أنها تضجر.
– دعيها منفردة؛ إن الوحدة تفيدها في هذا الوقت.
– على أنها عصبية المزاج!
– لا عجب في ذلك؛ فإنها قد ذاقت من أنواع العذاب في ما مضى من حياتها ألوانًا.
– تبًّا له من قاسٍ!
فأنكر الدكتور روجر عليها ذلك، وقال لها بلطف: أرجو يا حماتي أن لا تعودي إلى ذكره.
– أهلك الله ألبير الذي كان سبب شقائها وعذابها.
– بل الأولى بك السكوت؛ لأنها إذا سمعتْ شيئًا من هذا فإنه يزيدها آلامًا.
– لا أستطيع أن أسكت.
– إن كان الأمر كما تقولين، فأنا أشير عليكِ بالنوم العاجل كهذه.
فأطرقت مدام موستل ولم تُجِبْ بكلمة. ولم يكن إلا القليل حتى نهضا وذهبا إلى حجرة مرغريت، ثم دنت منها والدتُها وودَّعتها بقبلة في جبينها قبل أن تذهب إلى سريرها، أما مرغريت فأشارت عليها بالبقاء ففعلتْ. ثم سألها روجر قائلًا: كيف أنتِ الآن يا عزيزتي مرغريت؟
– أحسن قليلًا، وإني أشكرك شكرًا جزيلًا، ولم أَزَلْ أُحِسُّ ببعض التعب.
– لا بأسَ عليكِ، فالزمي سريركِ وخَفِّفِي عنكِ قلق الفكر واضطراب البال؛ فإنهما يُضنيان الجسم كما لا يخفى عليكِ.
ثم جلس واشتغل بمطالعة الجرائد، وكان حينًا بعد حين يخالسها النظر، وأما هي فكانت تتناوم وليست بنائمة.